مقال

عِشْق السَّاحِرة المُستديرة المَجْنونة

بواسطة
في
ديسمبر 23, 2022

فازت الأرجنتين بكأس العالم بعد 36 سنة، وجاءت دموع الفرح فى كل مكان فى الأرجنتين وحول العالم، وتصرّف ميسى بجنون وكالأطفال مع رفاقه بعد النصر.

هذه هى كرة القدم، لكن الأمر لا يقتصر على الاستمتاع بل يتعدّاه إلى الاقتصاد، حيث ذكرت «بلومبرج» أن الأرجنتين ستجنى فوائد اقتصادية كبيرة بعد فوزها بكأس العالم، لأن بطل العالم يتمتع غالباً بنسبة 0.25 نقطة مئوية إضافية من النمو الاقتصادى فى الربعين التاليين للبطولة، وهذا يرجع أساسًا إلى زيادة الصادرات لأن الفائز يتمتع بأضواء دولية أكبر، ما يعنى أن اقتصادها الكلى سوف ينتعش بأكثر من التوقعات بعد حصولها على كأس العالم.

إنها ليست مجرد كرة يجرى خلفها 22 لاعبا يركلونها بالأقدام والرؤوس، يزحفون ويقفزون لصدِّها، ويندفعون فى محاولةٍ لإيداعها فى شبكة مربوطة فى ثلاثة قوائم، وحارس المرمى له سيكولوجيته الخاصة أثناء اللعب وأثناء ركلات الترجيح.

لكن لماذا يتحمَّس بعض الناس فجأة لكرة القدم أثناء مباريات كأس العالم، فى حين أنهم عادة غير مهتمين؟ مثلًا ابنتى الصُغرى التى لم يكن لها اهتمام ملحوظ بكرة القدم، بدأت تتابع كأس العالم بشغف وحماس واستمتاع.

ولكن لماذا يهتف الناس ويصرخون أثناء المباراة بطريقة غير مألوفةٍ لهم؟! إن وجود الآخرين من حولهم يلغى «تفردهم»، إنها خاصية المكان حيث يندمجون مع ناس لا تعرفهم ولا يعرفونك، بخلاف بعض المجموعات المُنظَّمة.

ويعنى «عدم تَفَرُّدِك» أنك تتصرف بطريقة تتناسب مع معايير المجموعة، بدلاً من معاييرك أنت، ففى تلك الجماهير الكروية، يكون الصراخ والهتاف والدموع، والأزياء الغريبة، وطلاء الوجه والجسم بألوان أعلام الفرق المُتنافسة، وفى المونديال الأخير انتبه الجميع إلى مشجعى اليابان والسنغال وهم يزيلون القمامة بعد المباراة.

وعلى الرغم من اعتراضى على المقولة «أدعى على ابنى.. وأكره اللى يقول آمين!»، فإذا انتقد المغاربة منتخبهم كان ذلك أمرًا عاديًا، لكنهم يشعرون بالضيق إذا فعل ذلك آخرون من بلدانٍ أخرى.. هنا ليس المهم ما يُقال، بل من قاله، ويُسَّمى ذلك «تأثير الحساسية بين المجموعات»، بمعنى أن المُشجعين يكونون أكثر تسامحًا مع النقد منهم فيهم، لأن ذلك سيكون بنّاءً، بينما نقد الآخرين لفريقهم فلا.

الهويات الاجتماعية جزء مُهم من شخصيتنا يرتبط بمحيطنا الاجتماعى، مثل جنسيتنا أو النادى الذى نُشجّعه، حيث يكون الإنسان أكثر لطفًا تجاه الذين يشاركونه هويته الاجتماعية «مجموعته»، ويميل إلى الحذَر مع «المجموعات الخارجية».

لقد كانت متعتى الكبيرة فى الطفولة لعب كرة القدم، ثم توقفت وتحولت إلى مشجع، أستمتع واسترخى وأسعد
بالمباريات المُثيرة.

توقفت عند بعض الكلمات المؤثرة التى سطرها لاعبون عظام مثل «رونالدينو» الذى قال: «لقد تعلَّمت الحياة بكرةِ على قدمى وقلبى، كلما كان الفوز صعبًا كانت السعادة»، أما «ميسى» فقال: «عليك أن تقاتل وأن تُضحِّى لكى تصل إلى حلمك».

كثير من المشاهد فى كأس العالم الأخير استوقفتنى وأثَّرت فىّ، مشاهد لها أبعادها النفسية والاجتماعية والعائلية، فهناك ما كتبه مروان أبوسمرة الذى رأى أن انتصار المغرب على البرتغال انتصارٌ شخصى للّاعب «سفيان» ولوالدته التى دعاها إلى الملعب عقب انتصار فريقه ورقص معها أمام الجمهور وأمام شاشات العالم، وهو الذى ولد فى باريس من أسرة مغربيةٍ، تعود أصولها إلى أحد الأحياء الفقيرة فى مدينة مكناس، ولم يكن قد تجاوز الثلاث سنوات عندما طلّق والده أمه وعاد أدراجه إلى المغرب، فانتقلوا إلى أحد الأحياء الفقيرة حيث كانت ولسنوات طوال تعمل كخادمة فى المنازل، لكى تتمكن من تربية «سفيان» وأخويه، وعندما بلغ السابعة عشرة ترك المدرسة ليتفرغ لكرة القدم، وعُرض عليه الانضمام إلى المنتخب الفرنسى، لكنه فضَّل الانضمام إلى
المنتخب المغربى.

أما «حكيمى»، فقبَّل والدته أمام شاشات العالم خلال الاحتفال بالانتصار على إسبانيا.. وُلد فى مدريد من أسرة مغربية فقيرة، وعملت والدته فى المنازل لتعُيله وإخوته، وهو أيضًا اختار الّلعب لمنتخب المغرب عن مُنتخب إسبانيا؛ فهل كان انتصار المغرب على بلجيكا وإسبانيا انتصار أولاد المهاجرين على الفقر أم انتقامًا من ظلم الأب؟!!.

كانت السياسة حاضرة، بشكل خفِّى وضِمنى، فأصبحت المباريات وكأنها صراعٌ دولى نزيه، خاصةً فى مباراة المغرب وفرنسا، وربما كان ثأرًا موروثًا، وصدق من قال إن للكرة متلازمة وبانتهاء كأسها يكون الاكتئاب.

TAGS
RELATED POSTS
خليل فاضل
القاهرة، مصر

كاتب ومحلل نفسي، قاص وروائي، يعالج بالسيكودراما الحديثة في مصر، له مقال أسبوعي كل يوم جمعة ينشر في صحيفة المصري اليوم، كما تشهد له قنوات اليويتيوب بعديد من اللقاءات السخية نفسية واجتماعية، كما أنه يمارس مهنة الطب النفسي منذ حوالي 41 سنة

بحث
أحدث التعليقات