مقال

مصر دولة مؤسسات.. ولكن لا لتسليع الإنسان

بواسطة
في
يناير 10, 2025

ثمة أزمة عميقة فى قيمنا المجتمعية والبنية الأخلاقية، والحياة السياسية والمسار الاقتصادى، «هنا والآن» فى مصر المحروسة، الموضوع عميق ومُعقّد، وتحليله سيساعد فى فهم العلاقة بين الماضى والحاضر، ويوفر رؤية لبناء مستقبل أفضل، إن الظواهر التى نعيشها لحظيًا، لم تعُد سلوكًا فرديًا، بل تعبيرٌ عن أنماط متكررة، نابعةً من التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التى يمُرّ بها المجتمع.
مع الاحتكار وارتفاع أسعار السلع خاصةً المواد الغذائية، يسيطر قلقٌ مبهم وغامض حول المستقبل، وإحساسٌ بعدم الاستقرار المالى الفردى والجمعى، يطال كل الطبقات بلا استثناء، ومع ذلك أصبح الربح السريع بأى وسيلة، هو الهدف الرئيسى للطفل والمراهق والشاب دون بذل أى مجهود، ومن ثمّ انتشر الغش والنَصب والاحتيال بكافة الطرق، والبحث الدائم عن ضحايا جُدُد؛ حيث أن الاقتصاد القائم على المنافسة غير الشريفة، يدفع المهنيون والتجار إلى تقديم خدمات ومنتجات ذات جودة منخفضة، لتحقيق أقصى ربح وبأقل تكلفة.
زمان كانت الأصالة مرتبطة بالمهارة والإتقان، ومثال لذلك، الحرف اليدوية التى كانت مزيجًا من الفن والإبداع والجودة، أما الآن فيُنظر إلى العديد من المهن والخدمات على أنها «سلع» تُباع وتُشترى، بدلًا من كونها تجارب تعتمد على الجهد والضمير.
فى إطار ما سبق يأتى مفهوم «التسليع Commodification»، أى تحويل كل شىء كان يُنظر إليه كحق أساسى أو نشاط ثقافى أو خدمة موجهة للمجتمع، إلى سلعة يتم تداولها لأغراض الربح، أو إتاوة لتغطية نفقات فساد أخرى؛ وعلى سبيل المثال لا الحصر، كان التعليم والطب والطعام وغيرها، يُنظر إليهم كحقوق أساسية واحتياجات ضرورية، لكن فى عصر العولمة، أصبحت تلك الأساسيات تُدار بمنطق السوق.
ومن ناحيةٍ أخرى، سهّلت العولمة انتشار الأفكار والنظم الاقتصادية الليبرالية التى تركّز على المنافسة والربح، مما عزّز من التسليع فى قطاعاتٍ متعددة؛ فلم يعد الطعام مثلًا مجرد وسيلة للبقاء، بل أصبح «مُنتجًا» يحتوى على تجربة للرفاهية، والترف والانتماء الاجتماعى.
أما فى قطاع الطب والرعاية الصحية؛ فلقد تحولت الكثير من المستشفيات والعيادات، إلى مشروعات ربحية تُغالى فى تكلفتها، ومع التقدير لدور التأمين الصحى وعيادات طب الأسرة، لكن انتشار الإعلانات الطبية المُبالِغة والفجّة، جعل الخدمات الطبية منتجاتٌ يتحكّم فيها رأس المال.

كما أصبح التعليم الخاص والدولى أحد أبرز مظاهر التسليع؛ فتضاعفت تكاليفه بسبب زيادة الطلب على الجودة العالية، أو الاعتماد على الأنظمة الأجنبية المُطلقة، وبدلًا من أن يُصبح التعليم حقًا مُتاحًا للجميع مدى الحياة، صار وسيلةً للتفاخر والارتقاء الاجتماعى.
وأدّى التسليع إلى تعزيز التفاوت فى الحصول على الخدمات المختلفة بين الطبقات الاجتماعية؛ فتمكّن الأثرياء من شراء «الراحة والنغنغة»، بينما يعانى الفقراء من انخفاض جودة الخدمات العامة؛ فتآكلت القيم المجتمعية، وتراجع التركيز على البُعد الإنسانى أو الأخلاقى.

إن تسليع الخدمات فى مصر، كان انعكاسًا لتحولات اقتصادية عالمية، لكن أثره أصبح نصلًا قاطعًا فى لُحمة مجتمع يعانى منذ عقود من تحدّيات اقتصادية واجتماعية، وللحدّ من آثاره السلبية، يجب تعزيز دور الدولة والمجتمع فى تقديم خدمات إنسانية، تعتمد على الجودة والتكافؤ.
إن ضعف الرقابة من الجهات المختصة يعزز من ثقافة الاستغلال والمغالاة؛ فعندما يشعر البائع الجوال أو المؤسسة بعدم وجود عواقب حقيقية، يصبح التغَوّل على الموظف والشارى ممارسة شبه طبيعية.

إن هذه الممارسات تعمِّق فقدان الثقة بين أفراد المجتمع؛ فعندما يشعر الشخص بأن الكل «يتغوَّل» عليه، يفقد الإحساس بالانتماء أو المسؤولية الجماعية، وعلى المدى الطويل، يؤدى هذا إلى تفكك العلاقات الإنسانية وتآكل الروابط الاجتماعية.
لا بد لنا من مقاومة النمط السائد، باختيار التعامل مع المهنيين والتجار، الذين يقدمون خدمات أو منتجات بجودةٍ وأمانة، ونشر الوعى بمناقشة هذه القضايا علنًا، إن المسألة ليست بسيطة، لكنها انعكاس لأزمة قيم مركبة تتطلب مواجهة جذرية تشمل الفرد والمجتمع والمؤسسات، ومن المهم أن يبدأ كلٌ بدوره، حتى لو بدا صغيرًا، لإعادة بناء الثقة والقيم الأصيلة، من خلال تعزيز الوعى الثقافى، بالتركيز على القيم الاجتماعية الإيجابية من خلال التعليم والإعلام، وإصلاح المؤسسات، وبتحسين الشفافية والمساءلة، وتطبيق القانون بشكل عادل، والتركيز على الجانب الروحى والأخلاقى من الدين بدلًا من المظاهر، وتحفيز الاقتصاد، بمعالجة الأسباب الجذرية للطمَع، من خلال سياسات اقتصادية تدعم الطبقات المتوسطة والفقيرة.

TAGS
RELATED POSTS
خليل فاضل
القاهرة، مصر

كاتب ومحلل نفسي، قاص وروائي، يعالج بالسيكودراما الحديثة في مصر، له مقال أسبوعي كل يوم جمعة ينشر في صحيفة المصري اليوم، كما تشهد له قنوات اليويتيوب بعديد من اللقاءات السخية نفسية واجتماعية، كما أنه يمارس مهنة الطب النفسي منذ حوالي 41 سنة

بحث
أحدث التعليقات