<<الصحيفة كمرآة الذات.. قراءة نفسية وفلسفية فى مذكرات صلاح دياب عن تأسيس <<المصرى اليوم<<
ثمّة لحظة فارقة حين يقرر الإنسان أن يروى حكايته؛ فما هو البُعد السيكودينامى لتلك اللحظة؟ إن القرار بالحديث عن الذات ليس هيّنًا، بل زلزالى
من منظور التحليل النفسى؛ إنه انفتاح الجرح واعترافٌ بالوجود.
حين قرر دياب أن يروى حكايته، انتقل من حالة الكبت إلى بداية التحوّل الرمزى؛ فالحكاية أصبحت وسيلةً لقول ما لا يمكن قوله صراحةً: الألم، الشوق، الذنب، الغضب. إنها محاولة للسيطرة على الماضى، لا بمحوه، بل بإعادة كتابته. وقرار الحكى هنا يمكن تسميته بـ«ولادة الذات الساردة»، تلك الذات التى لا تكتمل إلا إذا حُكيت، وسُمعت، وفُهمت.
يرى فرويد أن المكبوت لا يموت، بل يعود فى صورة أعراض، بينما السرد هو محاولة لترويض العرض وتحويله إلى معنى.
إن رواية الذات لحظة استعادة للسيطرة، حيث يُصبح الفرد فاعلًا فى حكايته بعد أن كان متلقّيًا فقط. ولحظة الحكى تشبه الحلم: فيها الحقيقة والتمويه، الوعى واللاوعى، الإدراك والإنكار. إنها صرخة مُضمَرة تقول: «انظروا إليّ… افهموا لماذا أصبحتُ كما أنا».
فى علاقته بـالمصرى اليوم، يعود دياب إلى البدايات، إلى تقاطع الحاجة الشخصية مع الهواجس الوطنية، حيث وُلد مشروع الصحيفة. غير أن هذا التأسيس لا يُقرأ كمجرد قرار اقتصادى أو إعلامى، بل كفعلٍ نفسى وفلسفى، يعكس كينونةً تبحث عن معنى، وعن حضورٍ يُقاوم العدم.
يستعيد صلاح دياب طفولته الغارقة فى الصحف والكتب، لا بوصفها مرحلة زمنية فحسب، بل باعتبارها مخيالًا للرموز. لقد كان انغماسه المبكر فى الكلمات المطبوعة بمثابة تشكّل باكر لـ«الأنا المثالية» التى وجدت فى اللغة بنيةً آمنة، تحتضن المعنى، وتعوّض عن فوضى العالم الخارجى. ثم جاءت صدمة «مجدى مهنّا» كنقطة تحوّل، إذ جاء قرار إطلاق الجريدة عقب إقالة «مهنّا» من جريدة الوفد. هنا لا يتوقف الأمر عند حدود التضامن المهنى، بل يتجاوزه ليصبح تعويضًا نرجسيًا عن الإقصاء والخذلان، وربما عن إسقاطاتٍ نفسية أعمق، تتعلّق بالخوف من التهميش أو القمع. هكذا بدا تأسيس «المصرى اليوم» كأنه ردٌّ لاواعى على الجرح؛ وكان «الردّ الصحفى» فى هذه الموقعة أقرب إلى فعلٍ علاجى، تحرّكه رغبة ضمنية فى ترميم الذات عبر الفعل الإعلامى.
يسرد «دياب» واقعة دخوله السجن مرتين، لكنها لا تظهر كمحنة، بل كلحظة تفكك رمزى أعاد فيها تشكيل ذاته عبر مشروع الصحيفة؛ فالسجن، فى علم النفس التحليلى، يعبّر عن «الذات المحاصَرة»، فى حين أن التحرر عبر تأسيس كيان إعلامى يمثل محاولة لإعادة ترميم الأنا وتعويض قلق المحو الاجتماعى.
إن تأسيس صحيفة يومية مستقلة فى مصر، وفى لحظة سياسية ملتهبة، يمكن قراءته كفعل وجودى متمرّد؛ إذ لا يسعى «دياب» إلى الربح وحده، بل إلى مقاومة الصمت، ومحاربة الإلغاء عبر الطباعة اليومية؛ فالصحيفة، فى هذا السياق، ليست مجرد وسيلة، بل سؤالٌ وجودى: هل يمكن للكلمة أن تحمى الذات من الفناء؟ وكما قال عبد الرحمن الشرقاوى على لسان الحسين: «أتعرف ما معنى الكلمة؟ مفتاح الجنة. مفتاح النار. الحرية. الكلمة…» ثم يصرخ: «الكلمة سيف.. الكلمة مسؤولية.. إن الرجل هو الكلمة».
«دياب» رجل أعمال، وابن طبقة بورجوازية نافذة. وهذا التناقض بين سلطة المال ونزعة الاستقلال التحريرى يمثل لحظة توتّر فلسفى: هل يستطيع صاحب الامتياز الاقتصادى أن يخلق فضاءً حُرًا؟ أم أن المشروع ظلّ مشروطًا ببنية سلطوية مستترة؟ وهنا تصبح الجريدة ساحة صراع داخلى بين «دياب المواطن» و«دياب المستثمر».
إن المذكرات تشتبك مع الزمن، لا باعتباره خلفية، بل كعامل أساسى فى تشكّل المعنى؛ من خمسينيات القرن الماضى إلى ما بعد عام ٢٠٠٠، يتحول الفعل الصحفى إلى محاولة لـ«تجميد الزمن» عبر توثيقه يومًا بيوم. وهو ما يُذكّرنا بما قاله هايدجر: «الكتابة هى الحيلة الوحيدة لمراوغة الموت عبر تخليد اللحظة».
أما كتابة المذكرات نفسها؛ فليست بريئة؛ بل تمثّل، فى عمقها، ما يُعرف بـ«التحليل الذاتى المكتوب»..عملية يتتبّع فيها الفرد تاريخه الشخصى، كما لو كان يحلّل ذاته على أريكة التحليل النفسى. فى هذا السياق، يصبح السَرْد وسيلةً للشفاء، ويتحوّل التأسيس نفسه إلى حكاية للخلاص الذاتى، لا مجرد حدَث موضوعى.
فى النهاية، لا تبدو «المصرى اليوم» مجرد مشروع إعلامى، بل تتكثف فى داخلها هواجس مؤسسها، وتُترجَم عبر سطورها، رحلته من الهامش إلى التأثير، ومن الصمت إلى الحضور.
صلاح دياب، عبر تأسيسه للصحيفة، لم يكن يكتب للعامة فقط، بل كان يكتب ذاته.. كل صباح، على الورق، فى مواجهة النسيان. «المجد لمن قالوا لا فى وجه من قالوا نعم»– أمل دنقل.