نأكل عنبًا بطعم الدم
البنات يقطفن العنب، يعبئه العمال فى أقفاص، يشحن إلى أرجاء البلاد، نأكله بطعم الدَمّ.
فى بلدٍ تفيض شجيراته بعناقيد العنب، وتزيّن موائد المواطنين والمسئولين، تسيل دماء الفتيات على الإسفلت القاسى، فى طريق العودة من الحقول. ربما نعرف أسماء بعضهن، لا تحزن عليهن الدولة، ولا تُضاء لهن الشموع، ولا تتوقف عند مصيرهن النشرات. هنَّ «بنات التراحيل»، الذاهبات قسرًا إلى مزارع الأغنياء، ليقطفن العنب الذى نأكله نحن الذين لا نشعر بطعمه المعدنى، إلا حين نفكر فى جثثهن المصفوفة فى المشرحة.
إنه عنبٌ بطعم الدم. دم الفقر، دم الحاجة، ودم الجوع، فى لحظةٍ خاطفة، دهست تريللا ضخمة فخمة ميكروباص ضعيف يحمل أجسادًا غضّة، كنّ فى طريقهنّ لقطف العنب فى إحدى المزارع الخاصة. كانت الساعة تشير إلى بداية يوم العمل فى عزّ الحر، وهنّ لا يدرين أنهنّ فى طريق اللاعودة. تسع عشرة فتاة، تتراوح أعمارهنّ بين ١٤ و٢٢ عامًا، لقين حتفهنّ فى مشهدٍ لا يصف فقط حادث مرور، بل يختزل طبقاتٍ كثيفة من العنف الرمزى، الهيمنة الطبقية، والديناميات النفسية العميقة، فى صميم المجتمع المصرى الحديث.
لسن مجرد عاملات زراعيات موسميات. إنهنّ رموز مكثّفة للفئات التى تظلّ على هامش الخطاب العام، بلا صوت ولا تمثيل. مصطلح «التراحيل» فى ذاته يحوى شحنة سيكولوجية عميقة؛ فالترحيل هنا ليس فقط جسديًا من قرية إلى مزرعة، بل هو ترحيل رمزى من الوجود إلى اللاوجود، من الكينونة إلى الأداء الوظيفى.
إن الجسد لا يُنظر إليه هنا كذاتٍ إنسانية، بل كأداة عمل. وهذا ما يفسّر كيف يمكن لـ«مزرعة خاصة» أن توظّف فتيات قاصرات فى ظروفٍ قاسية، دون أدنى حماية قانونية أو نقابية. هنا يُستَغلّ الجسد الأنثوى كالأضعف، الأرخص، والأكثر طواعية للسلطة الاقتصادية. حين تخرج الفتيات مع الفجر لقطف العنب، مدفوعات من أعماق العوز، فى ثقافة ريفية- اقتصادية، بنية تولّد ما يُعرف فى التحليل النفسى الاجتماعى بـ«اضطراب القهر المكتسب»، حيث تتضاءل الفاعلية النفسية للإنسان، أمام سياقات القهر المتكرّر.
من يملك المزرعة؟ من يأكل العنب؟ من يربح من بيعه؟ ومن يموت فى سبيل جنيهات يومية لا تكفى للخبز؟ هذا التوزيع غير المتكافئ للألم والربح، يفضح جوهر المنظومة السياسية والاجتماعية.
إن الطرقات فى مصر ليست فقط أماكن عبور، بل مساحات للتهديد المستمر. والحوادث ليست حوادث بالمعنى العارض، بل «حتميات موقوتة» بسبب الإهمال المؤسسى، غياب الصيانة، وغياب الرقابة المرورية. حين يموت ١٩ شخصًا فى ميكروباص، فإن ذلك يُشير إلى ما يُعرف بسيكولوجيا «اللامبالاة الجمعية».
أما عن ردود الفعل الرسمية، فلم تبدأ بعبارات الحزن والتعازى، وانتهت بتعويضات رمزية وبلاغات شكلية. لكن السيكوديناميك يشير إلى تواطؤ غير واعٍ.. إنكار دفاعى هائل من قِبل السلطة والمجتمع معًا؛ فالإقرار الحقيقى بالكارثة يستلزم مراجعة كاملة.
المجتمع يعلم، فى مكانٍ ما من لا وعيه، أنه مسؤول. الآباء يعرفون أن البنات خرجن من بيوتهن لأن الدولة خذلتهن، لأن الفقر دفعهن، لأنهن خفن أن يُقال عنهن «مُتكاسلات». ولّد ما يمكن تسميته بـ«ذنب الطبقة المقموعة».
سيكوديناميًا، يفتح هذا الحادث جرحًا قديمًا فى الهوية المصرية: جرح العدالة الاجتماعية المؤجلة.
فى لا وعى الأمة، تتكرر رمزية الفتاة المهمّشة التى تموت فى صمت، بنتٌ من ريف المنوفية، لا تُعرف بالاسم، لا تُشيّع فى الإعلام، ولا تُذكر فى البرلمان، والعنب فى ثقافتنا رمزٌ للمتعة، وللثروة. لكنه هنا يتحوّل إلى ثمرة مُرّة. ما يُقطف بدم البنات، لا يمكن أن يكون لذيذًا.
أبعد من عدد الجثث، تكشف هذه الواقعة هشاشة الفتيات المصريات، أمام بنية اقتصادية ذكورية طبقية لا ترحم. شكل جديد من أشكال العبودية المعاصرة، محمى بالقانون، ومتواطَأ عليه ثقافيًا. كنّ صامتات، كما يليق بمن لا يملكن صوتًا، لم يكن العنب الذى يقطفنه حلوًا لهنّ. وربما لم يعرفن طعمه. كان مخصصًا للأسواق الفاخرة، للموائد المستديرة فى العاصمة، إحداهن كانت تُدعى «سميحة»، فى الرابعة عشرة، قد لا تملك شهادة ميلاد، لكنها تملك ذاكرة تشبه خريطة المجاعة. ترتدى بلوزة أختها الكبرى، وسروالًا ضيقًا مهترئًا، وتحمل فى عينيها سؤالًا لا يُسأل: لماذا نولد فى جهة الموت؟.