مقال

الأرزقية والعمال الموسميين في مصر

بواسطة
في
سبتمبر 5, 2025

في شوارع القاهرة والجيزة والإسكندرية، يتحرك آلاف الشباب والرجال كل يوم، على دراجات نارية أو عربات نصف نقل، أو في سيارات أجرة مؤقتة. وجوهٌ غائرة من التعب، وعيونٌ يكسوها سهرٌ مزمن. إنهم الدليفرية، ووراءهم جيش أوسع من الأرزقية.. عمال التراحيل، عمال الهَدْم والبناء، الحرفيون الموسميون، الذين لا يجمعهم عقدٌ ثابت، ولا تأمين ولا هوية مهنية معترف بها.

إنهم حاضرون في كل زاوية من حياتنا اليومية، ومع ذلك يعيشون إحساسًا خانقًا بالوحدة، التي ليست مجرد عزلة اجتماعية، بل تجريدًا من الإنسانية، أي أن تكون مرئيًا كيدٍ عاملة، لكنك غير منظور كإنسان.

تعيش مصر اليوم على اقتصادٍ غير رسمي متضخم، يضم أكثر من نصف القوة العاملة، وهذا يعني أن ملايين الناس يعملون بلا حماية قانونية ولا نقابية، وينتظرون رزقهم يومًا بيوم.

يعيش عامل الدليفري وفق خريطة التطبيقات، طلبٌ تلو الآخر، مقيّدٌ بالزمن، مراقَبٌ عبر تقييم النجوم. وعامل التراحيل يخرج من قريته قبل الفجر، ليقف في موقف عشوائي، ينتظر مقاولًا قد يختاره أو يتجاهله. في الحالتين، يعيش العامل حاضرًا مؤقتًا.. لا يعرف إن كان لديه عمل غدًا، ولا إن كان دخله يكفي آخر الأسبوع.

قد يبدو غريبًا أن نتحدث عن «الوحدة» في القاهرة، المدينة التي لا تنام، لكن ذلك ليس فراغًا اجتماعيًا، بل غياب الاعتراف.

إن عامل الدليفري يقضي يومه، وسط آلاف الزبائن والسيارات، لا يتلقى سوى إشارات.. «ضعها هنا»، «امشِ بسرعة»، كثيرًا بلا كلمة شكر، وعامل البناء يظل لساعات طويلة، في موقعٍ مكتظ بالعمال، لكن التعامل بينه وبين الآخرين أقرب إلى إشارات عسكرية.. «هات الطوب»، «ارفع الرمل». إنها وحدة داخل الزحام، أشد قسوة من العزلة، لأنها تذكرك في كل لحظة بأنك غير مرئي كإنسان.

إن هذا التجريد من الإنسانية يترك آثارًا سيكولوجية عميقة، جسدٌ مرهق، وروحٌ أشد إنهاكًا، ولا وقت لرؤية الأسرة أو مشاركة الأصدقاء، وحتى الأبناء يصبحون غرباء، وحين يُختزل العامل إلى رقم أو تقييم نجوم أو أجر يومي، يفقد الإحساس بأنه ذو قيمة، وحين يتلقى بعضهم ابتسامة أو «Tipp»، ربما يشعر بمرارة أكثر من الامتنان، لأنها تكشف هشاشته، وهذا ما يفسّر لماذا يشيح بعض عمال الدليفري بوجوههم، حتى حين يُعاملون بلطف، إنهم محاصرون بدرعٍ نفسي، يقيهم خيبة أمل جديدة.

مصطلح «الأرزقية» قديم في الثقافة المصرية، لكنه لا يزال حيًا. إنه توصيفٌ لعمالٍ لا يملكون دخلًا ثابتًا، بل يعيشون على «رزق اليوم باليوم»؛ فعامل التراحيل يبيع ساعاته تحت شمس المحاجر أو مواقع البناء، وعاملة النظافة المنزلية، تكدّ من بيتٍ إلى آخر بلا ضمان اجتماعي. و«العتّال» في الأسواق يرفع على ظهره ما يعجز عن رفعه أي إنسان، ثم ينصرف بلا أثر. إن هذه الفئات تشكّل قاعدة المجتمع، لكن يتم التعامل معها كأنها هوامش غير مرئية.

إن الإحساس بالوحدة عند هؤلاء ليست شعورًا شخصيًا، بل أزمة بنيوية؛ فثقافيًا.. ينظر إليهم المجتمع من علٍ، اقتصاديًا.. السياسات لا توفر لهم حدًا أدنى من الأمان، اجتماعيًا.. لا توجد روابط مؤسسية أو نقابية تدافع عنهم، وهكذا يُصبح الإحساس بالوحدة نتاج نظام كامل، لا مجرد مصادفة.

من المُهم هنا التمييز بين «العزلة الاجتماعية»، و«التجريد من الإنسانية»؛ فالعزلة قد تعني قلة الأصدقاء أو الرفاق، أما التجريد فهو أن تعيش وسط الناس ولا تُرى، وكأنك مجرد ترس في آلة. وهذا ما يعانيه عمال الدليفري والأرزقية في مصر، حاضرون في كل بيت، لكن غير مرئيين كأشخاص، لهم أسماء ووجوه وأحلام.

من زاوية سيكودينامية؛ فإن هؤلاء العمال يعيشون جُرح الاعتراف؛ فالطفل ينمو حين تنظر إليه أمه أو يبتسم له أبوه. وحين يُحرم الكبار من هذا الاعتراف، يشعرون بأن وجودهم بلا قيمة. بعضهم يعوض هذا بالعدوانية، والآخر بالانسحاب، وكثيرون بالصمت والاكتئاب. كل هذا يفسر لماذا نرى الغضب الكامن، في وجوه عمال التراحيل، أو القسوة التي تُطل من عيون سائقي التوصيل، إنها صرخات مكتومة ضد اللامرئية.

إن الحل ليس بسيطًا ولا سريعًا، لكنه يبدأ من اعتراف يومي.. كلمة شكر صادقة، نظرة في العين، ترميم إنساني، ولابدّ من حماية اجتماعية.. قوانين عمل تحمي الدليفرية والأرزقية، وإعادة الاعتبار لهذه الفئات كعمود للمجتمع لا كهوامش.

TAGS
RELATED POSTS

LEAVE A COMMENT

خليل فاضل
القاهرة، مصر

كاتب ومحلل نفسي، قاص وروائي، يعالج بالسيكودراما الحديثة في مصر، له مقال أسبوعي كل يوم جمعة ينشر في صحيفة المصري اليوم، كما تشهد له قنوات اليويتيوب بعديد من اللقاءات السخية نفسية واجتماعية، كما أنه يمارس مهنة الطب النفسي منذ حوالي 41 سنة

بحث
أحدث التعليقات
    الأرشيف