مقال

الحياة الموازية للرجال وزوجاتهم

بواسطة
في
نوفمبر 22, 2025

تشهد مصر فى العقود الأخيرة تحولات اجتماعية عميقة، تتجلّى بصورة خاصة فى أنماط الحياة الأسرية لدى الأجيال الشابة.

من أبرز هذه التحولات بروز ظاهرة جديدة نسبيًا، تتمثل فى الحياة «الموازية» التى يعيشها بعض الأزواج بعيدًا عن بيوتهم.. سهرات مطوّلة مع الأصدقاء، رحلات صيفية وشتوية جماعية، جلسات على المقاهى، وأحيانًا ممارسات مثل تعاطى الكحول أو الحشيش، والظاهرة لم تقتصر على الرجال فحسب، بل امتدت لتشمل بعض النساء اللواتى بدأن ينظمن رحلات جماعية خاصة بهن، سواء مع أطفالهن أو بتركهم مع المربيات.

هذا النمط يدعو إلى التأمل والحذر، لأنه ليس مجرد تغيير فى أسلوب الترفيه أو قضاء الوقت، بل هو انعكاس لتحولات أعمق فى مفهوم الزواج والأسرة، ويطرح تساؤلات حول المعانى الجديدة للارتباط والالتزام العاطفى والاجتماعى فى مصر المعاصرة.

لا يمكن فهم هذا السلوك بمعزل عن التحولات الاجتماعية التى مرّت بها مصر فى العقدين الأخيرين؛ فارتفاع تكاليف المعيشة وضغوط العمل، جعلت الأسرة عبئًا ماديًا ونفسيًا على بعض الأزواج؛ فصار «الهروب» إلى دائرة الأصدقاء، وسيلة لتخفيف الضغط.

كما أن انتشار ثقافة الفردية، والبحث عن اللذة اللحظية عبر السوشيال ميديا، والتأثر بالنماذج الغربية غيّر أنماط التفاعل؛ فأصبح «الوقت مع الأصدقاء» يمثل هوية موازية، بل أحيانًا بديلًا عن دور الزوج أو الأب.

وبالمقارنة مع جيل الآباء والأجداد، كان البيت مركز التلاقى الأساسى، بينما كان الأصدقاء امتدادًا للأسرة. اليوم، الآن انقلب الوضع؛ فالأصدقاء صاروا محورًا أساسيًا، والبيت مجرد محطة جانبية.

هذه التحولات أدّت إلى إعادة تعريف العلاقة الزوجية، بحيث لم تعد تقوم على المشاركة اليومية والاندماج، بل على صيغة من «التعايش الموازى»، الذى يترك مساحة واسعة لكل طرف بعيدًا عن الآخر.

من الناحية النفسية، تُشعِر هذه الظاهرة الزوجة، بأنها فى موقع ثانوى داخل حياة شريكها؛ فحين يُفضّل الرجل أصدقاءه على البقاء معها، أو مشاركة تفاصيل الحياة اليومية، يتولد لديها شعور بالحرمان العاطفى والإقصاء، ويتحول هذا الشعور إلى إحباط مزمن، إذ تفقد الزوجة الإحساس بالأمان والاحتواء، مما قد يقودها إلى القلق أو الاكتئاب، والانسحاب العاطفى كرد فعل دفاعى؛ فتصبح العلاقة أقرب إلى علاقة وظيفية، قائمة على الواجبات لا على الحب.

بدأت بعض النساء البحث عن حياة موازية مع الصديقات، لتخفيف شعور الوحدة، أو كرد فعل احتجاجى غير مباشر على غياب الزوج.

أضعف هذا التباعد العاطفى الرابطة الزوجية، ودفع العلاقة إلى برود أو صراع دائم، حيث يعيش الطرفان تحت سقف واحد لكن فى عالمين منفصلين.

يظلّ الأبناء الحلقة الأضعف فى هذه المعادلة؛ فغياب الأب المتكرر مع أصدقائه، أو انشغال الأم بدوائرها الموازية، يخلق ما يمكن تسميته بـ«البيت الناقص».. بيت فيه حضور جسدى للأبوين، لكن دون تواصل فعّال.

فى حين يُترك الأطفال للمربيات أو للشاشات، ما يفقدهم نموذجًا حقيقيًا للتفاعل الأسرى، ويشعرهم بالحرمان من الحنان، وقد يتطور الأمر إلى مشكلات سلوكية أو صعوبات فى تكوين الهوية، وبالتالى ينشأ جيل يرى أن الزواج مؤسسة شكلية، لا تقوم على التزام وجدانى، ما يهدِّد تكرار النمط، أو تحوّله إلى عزوف عن الزواج أساسًا.

هذا التأثير التراكمى لا يُهدد استقرار الأسرة الحالية فقط، بل يضعف الأساس الاجتماعى للأجيال القادمة.

يرى البعض أن «الحياة الموازية»، تمثل تحررًا من قيود الزواج التقليدى، وأنها تتيح للفرد، مساحة من الحرية والاختيار الشخصى، ومن منظورٍ آخر، نجدها مؤشرًا على أزمة قيمية، وفقدان التوازن بين الحرية الفردية والمسؤولية الاجتماعية.

المفارقة هنا، أن الرجال الذين ينشدون «الصحبة الدائمة مع الأصدقاء»، يمارسون شكلًا جديدًا من «الذكورة الهشة»، إذ يهربون من أدوارهم التقليدية كأزواج وآباء، وفى المقابل؛ فإن النساء اللائى يتبنين السلوك نفسه، يقعن فى فخ إعادة إنتاج الأزمة.

تطرح الظاهرة سؤالًا عميقًا حول معنى الزواج فى مصر اليوم.. هل هو مؤسسة للتكامل والمشاركة، أم مجرد عقد اجتماعى هش، قابل للالتفاف عليه عبر شبكات بديلة من العلاقات؟

الحياة الموازية للأزواج والزوجات ليست مجرد نمط ترفيهى جديد، بل ظاهرة اجتماعية معقدة تحمل تداعيات بعيدة المدى، لأنها تضعف العلاقة الزوجية، وتؤثر سلبًا على الأبناء، وتعيد صياغة مفهوم الأسرة فى المخيال الجمعى.

«الزواج قد يخلق بيتًا واحدًا، لكنه لا يمنع أن يسكنه وعيان منفصلان» فرجينيا وولف.

TAGS
RELATED POSTS

LEAVE A COMMENT

خليل فاضل
القاهرة، مصر

كاتب ومحلل نفسي، قاص وروائي، يعالج بالسيكودراما الحديثة في مصر، له مقال أسبوعي كل يوم جمعة ينشر في صحيفة المصري اليوم، كما تشهد له قنوات اليويتيوب بعديد من اللقاءات السخية نفسية واجتماعية، كما أنه يمارس مهنة الطب النفسي منذ حوالي 41 سنة

بحث
أحدث التعليقات
    الأرشيف