ما يهيئ لظهور الجين المُعتَلّ نفسيًا

كما تلعب الجينات دورًا أساسيًّا فى الصحة والمرض، يلعبُ نمط حياتك ونشاطك وكسلك يوميًّا؛ كذلك بيئتك المحيطة؛ فأنت ما تأكل وتتحرك، وأنت ما ترقد حبيس موبايلك وفراشك ومأكولاتك السريعة.

إن علم ظواهر الجينات Epigenetics، أى كيف تؤثر حياتك على جيناتك، أى أن التغيرات المحيطة بالجين من الممكن تغييرها أو إيقافها أو إصلاحها، لكنها لا توقف ولا تُغيِّر تسلسل الحمض النووى، ولكنها قد تُغيِّر كيف يُقرأ هذا التسلسل.

إن التعبير الجينى عن الصحة والمرض يعنى تلك البروتينات، التى تتخلَّق من تعليمات معينة داخل صُلب الجين، بينما التحوير الجينى قد يُعدِّل فى ذلك البروتين، بما يعنى تأثير البيئة ونمط الحياة على الجينات، أى إظهاره للصحة والمرض، وكأنها تُغلق المفتاح أو تفتحه ON & OFF، ومادام نمط الحياة مؤثرًا على الجينات مباشرةً؛ فمن السهل رؤية ذلك الرابط بين العوامل الوراثية والحياة والبيئة المحيطة، وهى عملية مُعقّدة تشمل تغييرات فى بنية الحمض النووى DNA.

إن العوامل المحيطة بالجينات تتغير بتقدُّم السن وبالمرض وبالتطور والنماء والسلوك اليومى، وهى صيرورة حياتية تبدأ من الحياة داخل الرحم.

كل الخلايا لها نفس الجينات، ولكنها تعبِّر عن نفسها بشكل مختلف كلما تقدمت فى السن، وكلما تطور فكرك وعضلاتك؛ فخلايا القلب والخلايا العصبية تتغيَّر وظيفتها دائمًا، والخلية العصبية والخلية العضلية لهما نفس الحامض النووى، لكنهما تعملان بشكل مختلف؛ فالخلية العصبية لها مسارات تنقل المعلومات من خلية إلى أخرى فى الجسم، أمّا الخلايا العضلية فلها تكوين يُساعد الجسم على الحركة، ومن ثَمَّ فإن الظروف المُحيطة تسمح للخلايا العضلية بأن تعمل وأن تتوقف.

إذا أخذنا مثالًا لطفل حديث الولادة ورجل عنده 26 سنة شاب ومسن عمره 100 سنة، فسنجد أن عمليات الحمض النووى فى ملايين المواقع فى جسم الرضيع وفى الشاب وفى المُسِّن، لكنها تنخفض مع تقدم العمر؛ فحديث الولادة تكون عمليات نمو الحمض النووى كبيرة، وفى الشاب متوسطة، بينما فى المُسِّن بطيئة.

إن الخلية الصحية يمكن أن تمرض وتتأثر بالعوامل السلبية، لكنها قد تعود صحية، ولنأخذ مثالًا للمُدخِّن، والمدخن السابق، والذى لم يدخَّن إطلاقًا، نجد أن التدخين يتدخل فى تغييرات محيطة بالجين؛ فيُعطِّل نمو الحمض النووى، إن صحة الحمض النووى عند الذين لم يدخنوا إطلاقًا أفضل من الذين دخنوا قليلًا وتوقفوا، وهؤلاء أفضل من الذين دخنوا بشراهة لفترة طويلة.

ظهور أعراض الجين المَرَضى يرتبط بضغوط الحياة المزمنة والمستمرة والمؤثرة، والتى تترك آثارًا وندوبًا وهمومًا، كالضغوط الاقتصادية وعدم القدرة على الوفاء بالتزامات الأطفال، والعراك الاجتماعى، والنشوء فى حياة فقيرة إنسانيًّا ونفسيًّا ومعنويًّا وثقافيًّا وتعليميًّا بسبب الفقر والجهل والمرض، والإحساس بعدم الأمان وعدم الرضا الوظيفى والحياتى، والتعرُّض لصدمات متوالية.

والتعرض للتلوث فى البيئة المحيطة مثل تلوث «الأسبستوس»، وهى مواد طبيعية، كانت لها فائدة تجارية فى الماضى، لكنها مسرطنة للبشر، وقد تتسبّب فى سرطان الرئة والحنجرة والمبيض، و«داء الأسبستوس» أى تليّف الرئتين.

إن الإساءة البدنية والمعنوية للطفل فى مراحل عمره الأولى، بما فى ذلك العنف المنزلى وإدمان أحد الوالدين أو الإخوة، والطلاق ووجود أحد الوالدين فى السجن، أو التعرّض لحادث هو مما ينبِّه العوامل البيولوجية الكامنة؛ فيظهر المرض النفسى؛ فتنكأ عوامل الخطر الهشاشة وتسهم فى تكوين المرض النفسى.

إن العوامل النفسية والاجتماعية قاطبةً، والضرب والإهانة والذل والعوز تنشط وتشجِّع الظهور الجينى بشكل سلبى. إن الـDNA كخط القلم الجاف لا يُمسَح، أما العوامل المحيطة بالجين؛ فهى كالقلم الرصاص من الممكن تغييرها وتحسينها بكل ما هو إيجابى.