مقال

نوبات الانين والوالدية البكماء

بواسطة
في
سبتمبر 20, 2024

جلس ثلاثتهم يحدقون فى أوجه بعضهم البعض، يتأملون اللفتات والنظرات دونما إحساسٍ واضح، يعبر عن غضبٍ أو حزنٍ أو فرح أو ترحيب، كان هناك صمت شبه كامل فى تلك الجلسة الثلاثية، التى كان رابعها الطبيب النفسانى مع الوالدين السبعينيين وابنهما عبدالمولى الأربعينى، وعندما بدأت عملية المناوشة بين الثلاثة تأرجحوا ما بين الردِّ والإحجام، وما بين الصمت المتعمَّد والصوت الخفيض، ولم تكن هناك لغة جسد واضحة، سوى أنها لا تعبر عن شىء، لغة جسد وطريقة تواصل تغلبها عدم القدرة على التعبير، وأحيانًا عدم الفهم أو الاستيعاب، كان ثلاثتهم يعانون من ذلك الاضطراب المُسَمَّى Alexithymia .

دخل عبدالمولى الذى يعيش فى موريتانيا ويعمل مهندسًا زراعيًا، إلى العيادة النفسية بوجهٍ خال من التعبير، يجاهد نفسه وخطواته، لكى يتقدم ويجلس أمام الطبيب النفسانى، قال: «لقد فقدت الشغف فى كل شىء تقريبًا، العمل، النزهة، ارتداء الملابس وتغييرها، فقدت الشهية واضطرب نومى، تزوجت وبعد أقل من عام تطلقنا، كان هناك فارق سن واضح، ولم يكن هناك أى تفاهم، أعتقد أننى السبب؛ فأنا أبكم العاطفة مثل أمى تمامًا، وزرت أطباء كثيرين، وغمرونى بشلال من العقاقير ذات التأثير النفسانى بلا فائدة؛ فرأيت أن آتى إليك؛ فلقد سمعت أنك تسمع جيدًا، أعانى كذلك من نوبات الهلع والقولون العصبى، أعيش بمُفردى، فقدت الرغبة الجنسية، جميع أصدقائى مشغولون ليل نهار، تنتابنى نوباتٌ من الأنين وأنا جالس، صيحاتٌ مكتومة مُتحشرجة، يسمعُها بعض القريبين منى، وكأنى أنازع الموت، أو كأن الموت يعاكسنى، أتمنى أن أرتبط، أحب الموسيقى وأعزف على البيانو، وأجد فى العمل ملاذًا، أنزل أحيانًا مع أبناء الحى، ألعب كرة القدم فى الشارع وأجيدها.. هم يضحكون، أعتقد أن السبب الرئيسى فيما أنا فيه هو والداى، أبى كان طيارًا مقاتلًا وأصيب بالصمم فلم يعُد يسمع، جمعته الصدفة بوالدتى، وأعتقد أنها إن لم تكن تزوجته، ما تزوجت أبدًا، لأنها مختلفة عنه تمامًا؛ كانت بسيطة، وهو مفكِّر ومُعقَّد الرؤية، كان زواجها به انتصارًا على واقعها، وكانت لها قصه كفاح معه، حيث سافرت معه إلى بلاد الفرنجة، وساعدته فى دراسته، أعتقد أيضًا أن أبى كان يعيش محنة التعبير عن نفسه، وإن لم يكن قد تزوج أمى لانتهت حياته ومات كمدًا، على الرغم من شغفه بالحياة، أمى لا تعرف كيف تعبر عن مشاعرها لا سلبًا ولا إيجابًا.

غالبًا إن عبدالمولى قد ورث من والديه الاكتئاب، وفى جلسة أخرى بعد وفاة والده، جاء ومعه أمه أطلَّت برأسها من باب الغرفة الموارب، ثم جلست مرتابة بعض الشىء، وقالت: «أنا ست مؤمنة بالله بعمل اللى علىّ، عبدالمولى ظلمنى كتير، كانت مراهقته صعبة قوى، إنه يلقى اللوم علىّ وعلى الآخرين»، هنا عمد الطبيب المعالج إلى أن يقوم بمواجهة سيكودرامية بينهما، عبدالمولى وأمه فى كرسيين متقابلين، تواجها بشىء من الحذر وكثير من الغصَّة، قالت الأم: «أنا أُحس بالدونية لأن كل أفراد العائلة سبقونى، وكان نفسى أشوف أولاد عبدالمولى من زمان، إن له وجهًا آخر، إنه رجل المهام الصعبة فى العائلة، ولديه الإيثار، لكنه فقد الشغف، وأنا لا أُنكر أننى وأباه، كنا غير قادرين على التعبير عن عاطفتنا تجاهه، لكننا بالفعل نحبه كثيرًا، وهو أيضًا صار أبكم العواطف».

Alexithymia صعوبة أو تعريف أو تسمية المشاعر، التى يمكن أن يعبر بها الإنسان عن حزنه أو فرحه أو ضيقه أو غضبه، والناس الذين يعانون من هذا الاضطراب لديهم صعوبة شديدة، فى التفرقة فيما يحسّون به داخل أجسادهم، وفيما يعبرون به بكلماتهم، إنها صعوبة فهم المشاعر، وهذا بسبب عوامل كثيرة، منها العوامل الوراثية، والتجارب السابقة.

إنها عدم القدرة على تنظيم المشاعر وعلى البوح والمشاركة، تلك الأمور المهمة جدًّا لتطور الطفل ونموه كإنسان، وبالتالى فإن فقدان ميكانزمات التعبير والبُكم الوالدى يؤديان إلى سلوكيات سلبية، تتراوح بين انفجاراتٍ غاضبة فجأة، أو رفض للآخرين، أو عدم القدرة على التشارك معهم كأطفال وكبار، وقد تم التأكد بالأشعة المقطعية للمخ وغيرها من العثور على خلل فى مُحفزِّات الغضب، ويمكن معالجة هذا عن طريق معالجة

السبب، وعن طريق التفاعل الحى والتدريب عليه

TAGS
RELATED POSTS
خليل فاضل
القاهرة، مصر

كاتب ومحلل نفسي، قاص وروائي، يعالج بالسيكودراما الحديثة في مصر، له مقال أسبوعي كل يوم جمعة ينشر في صحيفة المصري اليوم، كما تشهد له قنوات اليويتيوب بعديد من اللقاءات السخية نفسية واجتماعية، كما أنه يمارس مهنة الطب النفسي منذ حوالي 41 سنة

بحث
أحدث التعليقات