مقال

«السوريون.. «عصفور طَلّ من الشباك

بواسطة
في
ديسمبر 20, 2024

«عصفور طَلّ من الشباك، وقالى يا نونو، قلتله ريشاتك وين؟، قالى فرفطها الزمان، نزلت ع خدّه دمعه، وجناحاته مَتْكيَّه، واتهدّى بالأرض وقال بدِّى امشى وما فيّا، قلتله لا تخاف اتطلع، شوف الشمس اللى رح تطلع، أمواج الحرية بتلمع».
ناوشتنى كلمات تلك الأغنية المؤثرة؛ فظلّت تُلِح على ذاكرتى، ما إن دخل ذلك المراهق السورى ١٦ سنة فرِحًا، صائحًا سأذهب إلى حلب غدًا، ولما دخلت أمه منتشية ومبتهجة، قائلةً: «كيف يحِن لبلده وانا أخذته منها وعمره ٤ سنوات لا يعى شيئا؟»، أخبرتها أنه واعٍ وسيعى أكثر، لقد سمع وشاهد وسيقرأ، لقد اهتزّ بزلازل تركيا، وارتعب بمحاولة اللصوص اقتحام سيارة أهله التى كانوا يحاولون النوم فيها، إن الوطن محفورٌ فى جيناته.
والتقيت بسورى آخر، كالعصفور الذى طَلّ من الشباك، ينظر بعين الإنترنت بكل وسائلها إلى بلده، يصدِّق ولا يصدِّق، رأى من حُرِّروا من سجن صيدنايا للتو، مشوشين مهللين، وذلك البوست: «لو الثورة دى اتعملت عشان صيدنايا بس يبقى كفاية قوى، وتبقى نجحت وزيادة كمان».

وعالم نفس مُغَيَّب يدّعى أن السوريين سيعانون من «قلق الانفصال عمَّا كان»؛ فما كان ليس بالشىء الذى يقلق السوريين الانفصال عنه، ربما تعودوا على ظلمة الليل والاختفاء القسرى، إنها تلك الصورة المعاكسة، وذلك التناقض الذى نتج عن إدراكهم للطاغوت الساقط من مكانه المنيع، الذى أكل حواس الناس كما تأكل الدودة أوراق القطن فلا يزدهر، كثرٌ يقاومون شبح المعتدى، ويحاولون تشكيل هُوَيَّاتهم الجديدة، التى ستبزغ مع الوقت والنضال، إنهم يدركون ويعرفون أنه رحل، لكنه ربما يختبئ، ومن يضمن لهم بعدم إطلالة طاغوتٍ جديد، ومن سيملأ الفراغ الشاسع، هناك خوف من نمو الشجرة نموًا معوجًا، لأن ظلَّها المقهور يرتمى على حائطٍ مُتداعٍ ومشروخ.
إن الحرية الحقيقية هى فى التخلُّص من شبح العدو فى اللاوعى لأكثر من نصف قرن، ولكن فى الوقت نفسه هناك فراغ بحجم آثامه وجرائمه وإعداماته ومذابحه، إن مرجعية العدو تكمن فى حدود ما فعله بالضحايا انفعاليًا.

إنه فراغ الحرية الداخلية غير المصدَّق، والذى يتعارض مع السكينة والاطمئنان، هذا الفراغ لا تملؤه حكومة مؤقتة ولا جيش دمره بالكامل الكيان الصهيونى، ولكن بالتكامل النفسى، وبتعريف الأشياء كما هى بمسمياتها، هذا الفراغ الذى تركه الماضى لا يملك البنية الحقيقية لاستمرار وجوده، غير أن سمومه تنتشر فى المكان، فالأسير الذى أمضى عقودًا من عمره أكبر من تلك التى عاشها حُرًا، فى زنزانةٍ تحت الأرض، عندما ينظر إلى السماء والطيور والناس فى حيواتهم العادية، يجد عالمًا آخر شديد الرحابة قد يكون مُستغربًا، لأن جدران الزنزانة التى حبسته لم تستطع أن تنزع منه آماله، كانت تُحِدّ مسؤولياته وتفكيره، فالحرية الوجودية تجلب معها عبء تعريفها، واختفاء الديكتاتور يتطلب من الضحايا، ملء الفراغ بمعانٍ جديدة جميلة ونبيلة، لكن المهمة صعبة وثقيلة، ربما لأن النفس قد تعودت على الانغلاق.

عاقبت الآلهة سيزيف بأن يحمل صخرة من أسفل الجبل إلى أعلاه، فإذا وصل القمة تدحرجت إلى الوادى؛ فيعود إلى رفعها إلى القمة، وهكذا يظل إلى الأبد، ليصبح رمز العذاب اللا نهائى، ورأى ألبير كامو أن سيزيف يجسِّد لا منطقية ولا عقلانية الحياة الإنسانية، وختم بقوله: «إن المرء لا بد أن يتخيل سيزيف سعيدًا»، تمامًا كما نضال وصراع وكفاح وصبر السوريين.
والشعب السورى العظيم، يحمل تلك الصخرة الثقيلة، على صدره بين يديه وعلى أكتافه تدميها، وعندما تقع تلك الصخرة، تترك مكانها إحساسًا شبحيًا غريبًا مُختلًا، يربك العقل وكما قال نيتشه: «إننا كجزء من هويتنا نعانى فى اللا شعور، وعندما تختفى المعاناة نُحِسّ وكأننا فقدنا جزءًا كبيرًا من أنفسنا»، لهذا يتذكر الإنسان دائمًا، أيام الصدمات والآلام والافتقاد ولا يتذكر الفرح إلا قليلًا ونادرًا وربما بالصدفة.

تجد الروح نفسها فى الصمت، إحساس بتوقف الزمان والمكان، يتطلب تأملًا حسيًا ونفسيًا فى أعماق الذات كما قالت امرأة دمشقية، دعوة للتشافى وكأنك تواجه السقوط فى الهاوية، لكنك تتماسك على حافتها، بكل ما أوتيت من شجاعة وأنامل قوية، لقد تهشمّت المرآة تحت قبضتَى الظالم، وتقف فارغة لا تعكس إلّا صور الضحايا، بكل تشوهاتهم وذكرياتهم المنسية، وآلامهم وكسورهم وتعثراتهم، إذًا فلا بد للضحية أن يجد هدفًا أكبر يملأ به الفراغ والخواء.

TAGS
RELATED POSTS
خليل فاضل
القاهرة، مصر

كاتب ومحلل نفسي، قاص وروائي، يعالج بالسيكودراما الحديثة في مصر، له مقال أسبوعي كل يوم جمعة ينشر في صحيفة المصري اليوم، كما تشهد له قنوات اليويتيوب بعديد من اللقاءات السخية نفسية واجتماعية، كما أنه يمارس مهنة الطب النفسي منذ حوالي 41 سنة

بحث
أحدث التعليقات