مقال

مصر دولة مؤسسات.. ولكن لابد من الحذر

بواسطة
في
ديسمبر 27, 2024

يسرى بما يشبه الهمس هنا وهناك، بين أطيافٍ معينة فى مصر، حديثٌ يقترب إلى أن يكون فجًا مستغِلًا تغيرات تحدث بالمنطقة العربية، وما يحيط بمصر من مخاطر فى الشمال والجنوب والغرب، كما تسرى مخاوف معلنة من أحداثٍ بعينها حدثت فى الشقيقةِ سوريا، ونظرًا لأن التاريخ بدلالاته العميقة يؤكد على أن هناك علاقة عضوية بين البلدين على الرغم من اختلاف البنية المجتمعية، لذلك تمّ هضم السوريين فى مصر بسرعة.
نحن لا ننتظر جيفارا ولا زيلينسكى ولا أحد آخر؛ فمصر القديمة مثلّت نموذجًا استثنائيًا لدولة المؤسسات، من نيلها العظيم إلى السجلات المكتوبة على جدران المعابد.
إن ما يحدث بين الناس فى معاشهم اليومى، من غِشٍ وخداعٍ وتغَوُّل يدعو إلى القلق، ورغم كل التحدّيات؛ فهناك ثبات للهوية فى مصر؛ فهى الدولة التى حُفرت أركانها فى عمق الزمن، منذ أن قامت حضارة القدماء، التى مثلّت نموذجًا استثنائيًا للدولة، وأثبتت مصر قدرةً استثنائية على الاستمرار والتجدُّد، حتى فى أكثر الفترات ظلامًا واضطرابًا.
فى الحضارة الفرعونية نشأت مؤسسات قوية كالقضاء والإدارة المركزية والجيش، وكان التنظيم الإدارى للزراعة والخزانة، خير دليلٍ على فهمٍ متقدِّم لمفهوم الدولة وفاعليتها، ولم تكن تلك المؤسسات مجرد أدوات حكم؛ بل كانت امتدادًا لعقيدة المصريين فى النظام الكونى «ماعت»، حيث إن بقاء الدولة كان رمزًا للانسجام بين البشر والآلهة والطبيعة.
ومع حلول العصر المملوكى، ورغم الإنجازات العسكرية كصدِّ الغزو المغولى والصليبى، واجهت مصر انحطاطًا إداريًا، تفكّكَت معه مفاصل الدولة، وتحوّلت المؤسسات من أدوات خدمةٍ عامة، إلى ساحةٍ صراعات فردية بين الأمراء والنخب الحاكمة، وأصبح الحفاظ على الدولة يعتمد فقط على القوة العسكرية، لا على المؤسسات المدنية؛ لكن المفارقة كَمَنَت فى أن مصر حتى وهى فى أوج انحطاطها لم تنهَر كدولة، وظلَّت ملامحها العَفِيّة قائمةً بشكل أو بآخر، مما سمح لها بالنهوض فى عهد محمد على باشا الذى أعاد بناء الدولة الحديثة.

فى تاريخنا المُعاصر مثّلت هزيمة ١٩٦٧ مرحلةً صعبة، لأنها كشفت عن عوراتٍ مؤلمة فى الأداء المؤسسى، وفى السياسة، لكن مصر حوّلت الانكسار إلى انتصار، وشهدنا مراجعةً شاملة لمفهوم الأمن القومى، وإعادة بناء، وتجديد الهياكل السياسية والاجتماعية، وصولًا إلى نصر أكتوبر.

تتميّز مصر بتركيبتها المؤسسية المُتجَذِّرة تاريخيًا؛ ففى أحلك الظروف حافظت على استقرارها الأساسى بعَضّ النواجذ، ويرجع ذلك إلى وعى شعبى أصيل، بمفهوم الدولة ككيان جامِع. مصر أكثر تنوعًا واستقلالية فى العُمق، مما جعلها أقل عرضة للانهيار الكلى.

TAGS
RELATED POSTS
خليل فاضل
القاهرة، مصر

كاتب ومحلل نفسي، قاص وروائي، يعالج بالسيكودراما الحديثة في مصر، له مقال أسبوعي كل يوم جمعة ينشر في صحيفة المصري اليوم، كما تشهد له قنوات اليويتيوب بعديد من اللقاءات السخية نفسية واجتماعية، كما أنه يمارس مهنة الطب النفسي منذ حوالي 41 سنة

بحث
أحدث التعليقات