مقال

حين لا يسمع الطبيب.. اختزال و تهميش الجسد

بواسطة
في
يونيو 13, 2025

دخلتُ إلى غرفة الطوارئ، مثقلًا بتجربةٍ جسدية مريرة بدأت بحمى عنيدة، تلتها إفرازات صديدية من الأنف، وسعالٌ عنيد يُقيم فى الصدر، كما يُقيم الغريب حين يُغلق دونه الباب، ثم تطوّرت الأعراض إلى شعورٍ مفاجئ بالخفقان، هبوطٍ فى الضغط، وقشعريرة داخليّة كأن شيئًا ما ينفصل بداخلى عنى.

وقفتُ أمام الطبيب الأول فى مستشفى فخم بمصر الجديدة، ذاك الذى يُفترض أن يكون «البوابة»، ذلك الذى يلتقى الوجع أولًا؛ فيقرؤه. بدأت أحكى، كما يحكى أى جريحٍ يطلب فهمًا لا دواءً فحسب. تحدّثت عن البدايات، عن الحمّى، والإرهاق الذى لم يكن قلبيًا فى جوهره، بل جسديًا عامًا. لكنه لم يسمع. أكرر: لم يسمع.

لم يكن مشتّتًا، ولا مشغولًا بحالات أخرى. كان هناك، بكامل حضوره الميكانيكى مُبرمجًا، كان يسأل فقط عن الأعراض القلبية: هل هناك ألم؟ هل هناك خفقان؟ متى بدأ؟ وحين حاولت أن أشرح أن القصة لا تبدأ من القلب، بل تصل إليه كـ«نتيجة» لا «بداية»، رأيت انزعاجه. هل فقد الطبيب فضوله؟ الطبيب الجيد ليس فقط من يملك المعرفة الطبية، بل من يحمل فضولًا إنسانيًا أصيلًا، من يسعى لفهم حكاية الجسد من بدايتها لا من نهايتها فقط، من يصغى لا ليسجّل بل ليرى. لكن ما رأيته فى تلك الليلة لم يكن فضولًا، بل اختزالًا.

لم يقترب أحد من صدرٍ يعلو ويهبط، ولا من حلقٍ جاف. حتى طبيب القلب المتخصّص لم يضع السماعة على صدرى. لم يسمعنى جسديًا، ولم يسمعنى لفظيًا.

التاريخ الطبى ليس رفاهية. تُعلّمنا كل المناهج الطبية أن التاريخ المرضى، هو حجر الأساس فى التشخيص. بل إنّ الدراسات تشير إلى أن أكثر من ٧٠٪ من التشخيصات الدقيقة تبدأ من التاريخ الجيد فقط، قبل الأشعة، وقبل التحاليل، لكن الواقع فى بعض المؤسسات الطبيّة فى عالمنا العربى، وربما عالميًا، أصبح مختلفًا. أصبحت المقابلة الطبية السريعة تدقيقًا فى الأرقام، لا إصغاء إلى الحكايات. وطبّ القلب لا يعنى إهمال الجسد. القلب لا يعمل فى فراغ. بل يتأثر بالتهابات، بعدوى، بارتفاع درجة الحرارة، بالجفاف، بالإجهاد العصبى، بالأدوية، وحتى بالحزن.

لكن حين يُقصى كل ما سبق ويُقال لك: «نحن هنا للقلب فقط»، فلست أمام «تخصص»، بل أمام تشرذم طبى يُجزّئ الإنسان، ولا يفهمه، إن الخبرة ليست بديلًا عن الإصغاء. قد يقول قائل: الطبيب المتمرّس يعرف ما يبحث عنه، ويكفيه القليل ليُدرك الكثير. هذا صحيح، لكن حتى الطبيب الأعظم، لا يستطيع أن يُشخّص ما لا يُقال له. وما لا يُقال لا يظهر فى التحاليل. وما لا يُسأل عنه لا يُسجّل فى الملف. من واجبه أن يأخذ دقيقة فقط ليسأل: متى بدأت الحُمّى؟

علاقة المريض بالطبيب.. لا صوت لمن لا يُصغى. حين يشعر المريض أن الطبيب لا يسمعه، لا يصدقه، ولا يهتم بسياق ألمه، فإنه يفقد الثقة التى ليست مجرد شعور لطيف، بل عامل علاجى أساسى. حيث تُظهر الدراسات أن المريض الذى يشعر بأنه مفهوم ومحترم يلتزم أكثر بالعلاج، يُشفى أسرع.

TAGS
RELATED POSTS

LEAVE A COMMENT

خليل فاضل
القاهرة، مصر

كاتب ومحلل نفسي، قاص وروائي، يعالج بالسيكودراما الحديثة في مصر، له مقال أسبوعي كل يوم جمعة ينشر في صحيفة المصري اليوم، كما تشهد له قنوات اليويتيوب بعديد من اللقاءات السخية نفسية واجتماعية، كما أنه يمارس مهنة الطب النفسي منذ حوالي 41 سنة

بحث
أحدث التعليقات