التحولات السكانية قراءة سيكودينامية وسوسيولوجية
فى تحليل قوى للخبير السكانى أكرم ألفى «نهاية (الانفجار السكانى) للطبقة الوسطى»، نود أن نقرأ الموضوع سيكوديناميًا وسوسيولجيًا؛ ففى سكون البيوت التى كانت تضجّ بالأحفاد، وفى غرف الأطفال التى صارت مخازن أو مكاتب منزليّة، تكمن قصة التحوّلات العميقة فى الأسر المصرية المُنتمية إلى الطبقة الوسطى، خاصة فى المدن الكبرى. ما الذى جرى لهذه الأسر؟، ولماذا تباطأ نموها السكانى؟، وما الأبعاد النفسية والاجتماعية لهذا التقلُّص المفاجئ فى الامتداد العائلى؟.
الأزمة ليست فى الفقر وحده، بل فى الانحدار الصامت من طبقة إلى طبقة، من أفق إلى هوّة، دون ضجيج ودون مقاومة تُذكَر. إنها صدمة التراجع الاجتماعى فى مصر، الحالة المزمنة التى يمرّ بها ملايين المصريين الذين كانوا بالأمس ينتمون إلى طبقة وسطى آمنة، فإذا بهم اليوم يواجهون اختفاء تلك الطبقة نفسها، كأنهم استيقظوا فجأة ليجدوا أنفسهم فى واقع لا يعترف بأقدامهم التى كانت ثابتة.
إن المدرسة التى كانت خاصة أصبحت مُكلفّة حد الاستحالة، والسيارة القديمة التى كانت رمزًا للاستقرار تحوّلت إلى عبء وقود وصيانة. والوجبة الأسبوعية خارج البيت، وعطلة الصيف، وكشف الطبيب، وحتى شراء الدواء، لم تعُد تفاصيل طبيعية، بل أحلام مؤجلة أو مستحيلة، وهنا يولد الألم الحقيقى.. ليس فقط لأنك فقير، بل لأنك كنت شيئًا آخر، وفقدته.
نستطيع القول بأن الصدمة تتجلّى فى نظرات الآباء لأبنائهم.. كيف أشرح لهم أننا لم نعد كما كنا؟، كيف أبرِّر لهم أن الشقة التى كنت أحلم بشرائها لك قد تبخّرت مع موجات التضخم؟، وأن ما ادخرته لعشر سنوات لم يعُد يكفى لشهرٍ واحد؟، هذه ليست مجرد أرقام، بل انهيارات نفسية تحدث فى صمت البيوت، فى وجوه الأمهات، وفى انطفاء الأمل من صوت رب الأسرة، فى عجز الموظف «الملتزم» أمام موجة من العشوائية والاحتكار والمحسوبية.
إنها صدمة فقدان المكانة، حين تُركل من السلم الاجتماعى دون أن تجد أى درجات تصعدها مجددًا؛ فخلال النصف الثانى من القرن العشرين، كانت الأسرة المصرية، خاصةً الحضرية، تميل إلى الامتداد عبر ثلاثة أجيال متزامنة: الأجداد، الأبناء، والأحفاد. لم يكن من الغريب أن يرى الجد حفيده الرابع فى سن الخمسين، لكن هذا التصور بدأ فى التراجع الحاد بداية من التسعينيات، وتسارع مع مطلع الألفية الثالثة، والسبب الظاهرى الأول هو الزواج المتأخر أو حتى اللازواج، وتبعًا لذلك، تراجع معدلات الإنجاب. لكن هذه الظواهر السكانية تخفى خلفها طبقات أكثر عمقًا، تتقاطع فيها العوامل النفسية، الاقتصادية، والقيمية.
إن التحليل النفسى يُرجع تراجع الإنجاب، أحيانًا، إلى مشاعر لا واعية من القلق الوجودى، أو غياب الثقة فى المستقبل؛ فكثير من أبناء الطبقة الوسطى، المشتّتين بين تطلعات آبائهم وواقعهم الصعب، يعيشون ما يمكن تسميته بـ«تكلّس المعنى العائلى»، أى أن فكرة الأسرة لم تعد مُحفّزة نفسيًا كما كانت من قبل، والابن الذى نشأ فى منزل مزدحم بالحب والحركة والصوت، بات الآن حبيس دوامة الإنجاز الفردى، والترقى المهنى، والهروب من الالتزام. وبهذا المعنى؛ فإن اللازواج أو اللا إنجاب ليس قرارًا حُرًّا تمامًا، بل إنه ردّ فعل دفاعى على الانهيار الداخلى الخَفِى.
إن الجيل الجديد رأى بأمّ عينيه تدهور حال أبويه رغم كفاحهما، ولم تعد التضحية مضمونة النتائج. لذلك، أصبح الإنجاب، فى نظر كثيرين، مجازفةً قد تضُر الطفل نفسه قبل أن تضُر الأهل. وهنا يظهر الشعور المتناقض: «لا نريد أن ننجب كى لا نعيد إنتاج معاناتنا»، وكأنها الرحمة المختلطة بالخوف والتشظى. فى البُعد السيكولوجى، كانت الأسرة المصرية تحيا على أسطورة الامتداد، والرغبة فى «حمل الاسم»، فى «زرع شجرة» تمثّل البقاء. لكن مع سقوط المشاريع الكبرى، وتآكل المعنى الجَمْعى، لم تعد الأساطير تُلهب الخيال، بل باتت تُشكِّك. لماذا نُنجب؟، لأجل من؟، لأجل ماذا؟، وهكذا لم تعُد الأسرة ملعبًا للحياة، بل مساحةً لإعادة التفاوض مع العالم، وسط ضغوطٍ اقتصادية ونفسية.