حين يصبح التعليم إعلانًا.. والعلم رقم موبايل
من جلال العلم إلى رقم الهاتف.. فى طريقٍ مزدحم، لفت نظرى إعلان بسيط لكنه صادم.. «نوفر تعليمًا بديلًا.. اتصل على الرقم كذا». يافطة بلا هوية، بلا مؤسسة، تَعِد الناس بتعليم بديل، كما لو أنه منتج جديد أو خدمة منزلية. وبينما أتأمل هذه العبارة، تذكّرت ما كتبه الكاتب الكبير أنور الهوارى فى المصرى اليوم.. «لقد باتت الدولة تنظر إلى التعليم نظرة متدنية، حتى تدنى مستواه، ولم يعد كما كان مصدرَ احترام، ولا يضمن لصاحبه مركزًا اجتماعيًا يليق بجلال العلم، ولم يعد يوفر له مستوى معقولًا من المعيشة الطيبة».
كلمات الهوارى ليست مجرد وصف، بل مرثية لوطنٍ كان يرى فى التعليم سلّمًا للارتقاء، فإذا به يتحول إلى إعلانٍ ترويجىّ فى الشارع، وإلى رقم موبايل ينتظر اتصالًا من يائسٍ يبحث عن فرصة نجاة.
كان التعليم فى مصر يومًا رمزًا للكرامة، وكان الطالب الفقير يؤمن بأن جهده سيُنقذه من الفقر، وأن شهادته ستكون مفتاحًا لحياةٍ أفضل، لكن هذا العقد الاجتماعى انهار؛ فلم يعد العلم يضمن عملًا، ولا الشهادة تضمن احترامًا، ولا الجامعة تصنع مواطنًا نافعًا.
لقد تحولت العملية التعليمية إلى منظومة بلا روح.. مدارس حكومية متهالكة، مدرسون مُحبَطون، مناهج تكديسية بلا خيال، وجامعات تخرّج آلافًا بلا مهارات.. عندها، انفتح الباب أمام السوق، مدارس دولية بأسعار فلكية، دروس خصوصية بآلاف الجنيهات، كورسات ديچيتال تَعِد بالمعجزات. ثم جاء المشهد الأكثر سريالية.. يافطة تقول «نوفر تعليمًا بديلًا»، وكأن التعليم الرسمى أصبح سلعة فاسدة تحتاج إلى بديلٍ يُباع فى السوق السوداء!.
إن الأزمة ليست فى المناهج فقط، بل فى نظرة الدولة للتعليم؛ فحين لا تراه كاستثمار فى المستقبل، بل كمصاريف يجب تقليصها، يفقد التعليم قيمته، وتقل الموازنات، يُهمَّش المعلم، وتتحوّل المدرسة إلى مكانٍ لتمضية الوقت، لا لبناء الإنسان؛ فتنخفض القيمة الاجتماعية للتعليم، ويصبح المواطن لا يثق فى جدواه، وحين لا يجد خريج الجامعة عملًا، ويعيش المعلم فى ضيق، ويتحوّل المتفوق إلى عاطل، يصل المجتمع إلى نقطة الانكسار.. العلم لم يعد وسيلةً للكرامة، بل عبئًا بلا عائد.
فى بعض دول العالم، يُستخدم مصطلح «التعليم البديل»، للإشارة إلى مدارس إبداعية مثل مونتيسورى ووالدورف، لكن فى مصر، يُطرح المفهوم من باب اليأس لا الابتكار.
فى وجدان المصريين، كان المعلم رمزًا للجلال.. «قم للمعلم وفِّه التبجيلا، كاد المعلم أن يكون رسولا». أما اليوم، فكثير من المعلمين يعيشون تحت خط الكفاية، يعملون فى أعمال إضافية، ويفقدون هيبتهم أمام طلابهم، وحين يُهان المعلم، يُهان التعليم كله. وحين يرى الطالب أن من علّمه يعيش فى العوز، يفقد إيمانه بأن العلم يرفع صاحبه.
حين يسقط التعليم، يسقط معه ميزان القيم.. يُستبدل الجهد بـالتحايل، والمعرفة بـالشهرة، والاستحقاق بـالواسطة؛ فمثلًا يتخرج شباب بلا إيمان بالعلم، بلا مهارات حقيقية، بلا أمل، ويتحول المجتمع إلى سوق فوضوية تحكمها المصادفات لا الكفاءة.
إن الإنقاذ يبدأ من الإيمان بأن التعليم ليس عبئًا، بل استثمارًا وطنيًا، ويتطلب الأمر رفع مكانة المعلم ماديًا ومعنويًا، تحديث المناهج لتصنع عقلًا ناقدًا، ربط التعليم بسوق عمل حقيقية، إعادة الثقة للطالب فى جدوى جهده. ولا بد من رؤية قومية تجعل التعليم مشروع دولة لا مجرد مرفق خدمى.
إن اللافتة التى تقول «نوفر تعليمًا بديلًا» ليست مجرد إعلان؛ إنها شهادة وفاة رمزية للنظام التعليمى الرسمى؛ فحين يصبح العلم رقم موبايل، يفقد قدسيته، وحين يتحوّل المعلم إلى موظف مسحوق، يفقد رسالته، وحين ييأس الطالب من المستقبل، تفقد الأمة عقلها.
إن العلم لا يُشترى، والعلم ليس إعلانًا، ولا رقم هاتف، ولا سلعة فى السوق. العلم رؤية، وعدالة، وإرادة، وما لم تُعد الدولة ترتيب أولوياتها، وترى فى التعليم وسيلة للبقاء لا بندًا للإنفاق؛ فسنظل نقرأ لافتاتٍ تَعِد بتعليمٍ بديل، لكننا سنفقد شيئًا أعمق.. إيماننا بأن المعرفة تحرّر.
لم يكن التعليم وسيلةً للوجاهة الاجتماعية أو للثراء السريع، بل كان سُلّمًا إلى الوعى والكرامة، وبابًا للفهم. كان المعلّمُ يزرع القيم ويوقظ فى التلميذ دهشة السؤال، واليوم، ارتبكت المعايير.
إننا بحاجة إلى أن نعيد للتعليم روحه، وإلى أن نُعيد له هدفه الأسمى.. أن يربّى الإنسان، وأن يوقظ العقل.
«حين يصبح التعليم تجارة، يفقد المجتمع بوصلته».
