حين تصمت «جمهورية إمبابة الشعبية» في قلب القاهرة
فى إحدى المرّات، بينما أقود سيارتى، وجدت نفسى عالقًا فى حوارى إمبابة المتشابكة؛ أدور حول نفسى بين الأزقّة، شعرت للحظة أنّنى خرجت من زمن القاهرة، كانت لدىّ رهبة غامضة؛ ذلك الشعور الذى يأتيك حين تدرك أنك فى عالمٍ له قوانينه وخرائطه وإيقاعه الخاص، وأن فهمه يحتاج إلى لغة أخرى، ووقتًا أطول مما تملك، وحين وصلت إلى كورنيش النيل، أدركتُ أنّ إمبابة ليست مكانًا يمكن المرور به سريعًا… بل عالم كامل.
فى عيادتى، ألتقى كثيرًا من أهل إمبابة: من الجزار، إلى صبى الورشة، إلى الصنايعى، إلى السائق، إلى من لا مهنة له، تختلف طبقاتهم الاجتماعيّة، وتتباين شكاواهم وأوجاعهم، لكن يجمعهم خيط واحد رفيع: أن إمبابة ليست حيًا داخل القاهرة… بل جمهورية صغيرة مستقلة بإيقاعها ومعناها وأزماتها.
هذه «الجمهورية الشعبية» فى جوهرها خارج الزمن القاهرى كليةً، تُقدّم اليوم درسًا كبيرًا فى علاقتها بالمجال العام… درسًا تحدّث عنه رقم واحد فقط: حيث شارك نحو ٢٧ ألف ناخب فقط من أصل نصف مليون، الرقم يبدو صغيرًا، لكنه مرآةً كبيرة تعكس حالة اجتماعية وسياسية ونفسية عميقة.
إمبابة ليست حيًّا عاديًا. إنها، كما يصفها أهلها، منطقة لها إيقاعها الخاص، وثقافتها الداخلية، وشبكاتها غير الرسمية التى تنظّم حياة سكانها منذ عقود، وكثيرًا ما ظهرت المنطقة وكأنها داخل القاهرة جغرافيًا… وخارجها اجتماعيًا وحضاريًا، بكثافتها السكانية، بحركتها الدؤوبة، بانتشار الفقر والبطالة والاقتصاد غير الرسمى، وبطبقاتها المتراكمة من التاريخ، صارت إمبابة نموذجًا لحياة صعبة تُدار بجهد يومى، أكثر مما تُدار بسياسات عامة، وهنا يصبح سؤال المشاركة السياسية سؤالًا عن المعنى قبل الأرقام.
من منظور اجتماعى، المشاركة الضعيفة لا تعنى أن الناس غير مهتمين، بل تعنى أنهم مشغولون بما هو أثقل: بتكاليف الحياة، بأجورٍ لا تكفى، بحياة يومية تضغط من كل اتجاه. حين تكون الأولوية هى البقاء، يصبح الذهاب إلى صندوق الاقتراع رفاهية قد لا تتقدّم على همّ العمل، والمرض، ومصاريف المدارس، وثلاجة تحتاج لشراء الأسبوع.
ومن منظور سياسى، الرقم يعكس حالة تراجع فى الإحساس بالجدوى؛ فكثيرون يشعرون أن أصواتهم لن تغيّر مسارًا يبدو محددًا سلفًا، وأن الدور المطلوب منهم هو المتابعة من بعيد، لا المشاركة من الداخل. وهذا الشعور، سواء اتفقنا معه أم لا، صار جزءًا من الوعى العام فى مناطق عديدة تشبه إمبابة، حيث تتقدم «الحياة اليومية» على «الحياة السياسية».
وفى إمبابة تحديدًا، الصمت ليس فراغًا؛ فهناك بيئة اجتماعية واسعة، ودوائر ثقة صغيرة، وأنماط تضامن محلى تتكفّل بالاحتياجات اليومية أكثر مما تفعل المؤسسات الرسمية، ولذلك تنشأ علاقة خاصة مع الدولة: علاقة حضور وغياب فى آن واحد؛ حضور فى شكل قانون وأمن وبنية أساسية، وغياب فى شكل خدمات متعثّرة، ومعيشة تحتاج إلى اجتهاد يومى من أهل الحى أنفسهم؛ فالناس هنا يلجأون إلى منطِق: «نحلّها بمعرفتنا»، وكلما ازداد الاعتماد على الذات والشبكات القريبة، تراجع حضور الدولة المركزية فى الوعى اليومى، وهذا النمط من الارتكاز الداخلى موجود فى كثير من المناطق الشعبية، لكنه يبدو أوضح ما يكون فى إمبابة، حيث للحى «شخصية» تكاد تكون مستقلة عن العاصمة.
إن هناك فجوة نفسية تتكوّن، حين يشعر المواطن بأن المجال العام لا يسمعه، ولا يراه، ولا يعطيه مساحة حقيقية للفعل، هذه الفجوة تتحول بمرور الوقت إلى لامبالاة محايدة، انسحابًا هادئًا من المشهد، مثل متفرج اعتاد الجلوس فى الصفوف الخلفية، لأنه لم يجد يومًا كرسيًا فى الأمام.
هنا يصبح السؤال الأعمق: هل يعكس رقم ٢٧ ألفًا أزمة فى المجتمع؟ أم فى السياسة؟ أم فى العلاقة بينهما؟ الراجح أنه يعكس ثلاثتها معًا؛ فالمجتمع مُثقَل بضغوط تجعل المشاركة العامة رفاهية، والسياسة، بنمطها الحالى، لم تعد تقدّم للناس شعورًا بالفاعلية، والصلة بين المواطن والدولة فقدت جزءًا من حيويتها القديمة، تاركة مسافة تتّسع عامًا بعد عام.
ربما لا نحتاج فقط إلى قراءة الأرقام، بل إلى قراءة ما وراء الأرقام: قراءة الإنسان، وظروفه، وطموحه، وإحساسه بقدرته على الفعل؛ فالمشاركة ليست واجبًا انتخابيًا فقط… بل انعكاس لمدى شعور الفرد بأنه جزء من قصة أكبر، وما جرى فى إمبابة يقول إن هذه القصة تحتاج إلى كتابة جديدة، تبدأ من الناس… لا من الصناديق.
