مقال

اختلال الواقع في مواجهة التعقل.. «السكيدزوفرينيا» مثالًا

بواسطة
في
فبراير 7, 2025

عندما التقيته لأول مرة، كان وجهه يجمع ما بين العبوس والتجهم والإحساس بالقرف من الحياة، وأن ثمة ضجيجًا فى رأسه.. كانت أمه ألمانية وأبوه مصرى ويعيشان فى الخارج، وكان زائغ الملامح، وقارئا نهما ودارسا متعمقا لعلم المصريات، الذى أفضى إلى ضلالاتٍ وهلاوس تتعلق بالديانة المصرية القديمة وفحواها.. وكان يفاجئك أحيانًا بغرابة سلوكه أو بنظرةٍ أو حركة غريبة.
استمر علاجه طويلًا، ثم تزوج وأنجب وغيّر نمط حياته تمامًا بالاستيقاظ مبكرًا والذهاب إلى الجيم، وأرسل إلىّ هذه الرسالة التى اضطررت إلى حذف بعض تفاصيلها لاعتباراتٍ خاصة: «ترددت على عيادات الطب النفسى كمريض بالفصام لخمسة وعشرين عامًا، والطب النفسى يعتبر مريض الفصام قضيةً خاسرة، وفى أحسن الأحوال يبقى المريض فى البيت تحت تأثير الأدوية المُعالجة لباقى حياته. طبيبى النبيل بطرقه الغريبة المتجددة وعلمه وعقله الحاد يراهن على المريض الفصامى رغم جميع العقبات، ومؤمن بأنه يستطيع أن يعيش حياة منتجةً وطبيعية، مجهودٌ رهيب يبذله مع كل مريض على حِدة، يبدأ بتكوين علاقة قوية مع المريض الذى فى أحسن الأحوال يفتقد لكثير من المشاعر الإنسانية وتحاصره الأفكار الاضطهادية، رهانٌ مستحيل لا يلبث بعد فوزه به، أن يبدأ بتكوين وعى وفكر وإزالة الصدأ المتراكم على الشخصية، مرةً بالجلسات الفردية ومرةً بجلسات العلاج الجماعى بالسيكودراما، واستيعاب المريض داخل أسرة صغيرة آمنة، يستطيع التعايش بأمان فيها، والتعبير عن ذاته المُكبَّلة بحرية، مع استخدام أقل قدْر من الأدوية النفسية؛ فكانت عيادته شرنقة احتضان للمرضى ما لبثوا بعدها أن أصبحوا فراشات محلقة، وانتصر د. خليل فيما فشل فيه دون كيشوت، انتصر على طواحين الهواء وأثبت أن مريض الفصام قادرٌ على الحياة».

إن فصام العقل المعروف أيضًا بالــ Schizophrenia، اضطرابٌ نفسى يتسبب فى تشوهات فى الإدراك العقلى، وتلعب عدة عوامل دورًا فى تطور هذا الاضطراب؛ فهناك علاقة بين الفصام ومستويات غير طبيعية من بعض المواد داخل المخ، وتشمل اختلالات فى بنيته ووظيفته، وعدم توازن النواقل العصبية فيه.

من ناحيةٍ أخرى، تشير الديناميكيات النفسية للفصام باعتباره اضطرابًا عميقًا يعكس صراعات داخلية غير واعية، واضطرابات فى النمو النفسى، وانفصال الأنا عن الواقع، ويُعتقد أن مشكلته الجوهرية هى ذلك التفكك والتفتت الأساسى فى الأنا Ego التى تُعتبر الوسيط بين الدوافع الداخلية والواقع الخارجى، حيث تصبح عاجزةً عن الحفاظ على تماسكها، وقد تؤدى الروابط المزدوجة المتكررة، بمعنى تلقى الطفل رسالتين متضاربتين من أمه تنفى إحدى الرسائل الأخرى، مما يخلق مفارقة حيث لا يستطيع الإنسان حلّ الصراع، فتتشوه قدرة الطفل على إدراك الواقع بدقة، ما يؤدى إلى ظهور الأعراض الذهانية، حيث يفقد المريض القدرة على التمييز بين تجاربه الداخلية والخارجية، ويكون هذا التشرذم فى الأنا نتيجة صدمات فى مرحلة الطفولة المبكرة، وحيث يفشل الطفل فى بناء إحساس مستقر بالذات بسبب رعاية غير متسِّقة ومهملة.

ويعتمد مرضى الفصام بشكل كبير على آليات الدفاع البدائية، التى تهدف إلى حماية الأنا، لكنها تصبح غير فعالة وتؤدى إلى أعراض مرضية، كالإسقاط Projection بأن يتم نقل الأفكار أو المشاعر غير المقبولة إلى كيانات خارجية، مما يولد الهواجس والأحاسيس والأفكار الاضطهادية، والنكوصRegression العودة إلى مراحل تطور سابقة كوسيلة للهروب من الضغط النفسى الشديد، وتُستخدم هذه الآليات لهشاشة الأنا وعدم قدرتها على التعامل مع الصراعات المعقدة، وقد تفشل «الأنا الحقيقية» فى الظهور بسبب غياب «بيئة حاضنة» أثناء الطفولة، مما يؤدى إلى شعور بالفراغ وانعدام الواقعية، وهو ما يظهر بشكل شائع لدى مرضى الفصام.

ووفقًا للتحليل النفسى التقليدى، قد يكون الفصام نتيجة صراعات داخلية عميقة غير واعية تُثقِل الأنا؛ فيرى فرويد أن الفصام ينشأ بسبب انسحاب الطاقة النفسية Libido من العالم الخارجى؛ فيركز المريض على عالمه الداخلى، وتصبح «الأنا» لديه هشة، مما يعنى أنهم لا يستطيعون التمييز بين أفكارهم ومشاعرهم، ولا بالمحفزِّات الخارجية.
إن الديناميكيات النفسية لمرضى الفصام تعكس عالمًا داخليًا متفككًا، ينشأ عن مزيج من الإخفاقات التنموية، والصراعات غير الواعية، والتحديات الوجودية، وفهم كل هذا يمكننا من تقديم رعاية أكثر تعاطفًا وفعالية.

TAGS
RELATED POSTS
خليل فاضل
القاهرة، مصر

كاتب ومحلل نفسي، قاص وروائي، يعالج بالسيكودراما الحديثة في مصر، له مقال أسبوعي كل يوم جمعة ينشر في صحيفة المصري اليوم، كما تشهد له قنوات اليويتيوب بعديد من اللقاءات السخية نفسية واجتماعية، كما أنه يمارس مهنة الطب النفسي منذ حوالي 41 سنة

بحث
أحدث التعليقات