مقال

ديناميات الأسر المُنهكة التي فقدت توازنها

بواسطة
في
أبريل 11, 2025


إن الأسَر المنهكة، المتفككة، المرهقة، سواء كانت ميسورة أو محدودة الدخل أو رقيقة الحال، تشترك
جميعها فى دوامة الضغط والتوتر الداخلى، مع اختلاف فى درجات المعاناة المادية. غير أن ما يتولد من اضطراب داخل الأسرة لا يقتصر على طبقةٍ اجتماعية بعينها، ولا يرتبط بالالتزام الدينى أو بالأخلاق الحميدة، بل يتصل جوهريًا بنمط العلاقات بين أفرادها، وبروح المشاركة، بحِسّ التقدير، وبكلمةٍ طيبة، وبمراعاة من هم أكثر حساسية وإجهادًا، فالأب الذى يعمل فترتين، والأم التى تُنهى دوامها لتعود فتطبخ وتُنظف وتُذاكر، ثم لا تجد من يحتفى بها بكلمة حنان، بل يُطلَب منها أن تكون عشيقة متألقة فى غرفة النوم، وللأسف فإن هذا نموذج مُتكرر، والأسوأ أننا نغفل أحيانًا عن ذلك الابن الذى ينزوى خلف بابٍ مغلق، غارقًا فى عوالم لا نراها، قد تنتهى بجريمة، كما فى واقعة «الدارك ويب».
عندما تغيب هذه الروابط الإنسانية الحقيقية، تفقد الأسرة وظيفتها الأساسية كحاضنة اجتماعية، وتتحول إلى عبء داخلى مهدِّد للاستقرار النفسى والمعنوى لأفرادها، فالأسرة تُعَدّ النواة الأولى التى يتكوّن فيها الفرد نفسيًا واجتماعيًا، ولكن عندما تصبح تلك البيئة الأسرية مصدرًا للتوتر والانفعالات السلبية المستمرة، فإن ذلك يؤدى إلى نتائج نفسية كارثية على أفرادها، خاصةً الأطفال والمراهقين.

إن الأسرة المُضطربة لا تعنى بالضرورة وجود طلاق أو انفصال، بل قد تكون أسرة متماسكة ظاهريًا، لكنها تعانى من غياب التفاهم، وضعف الروابط العاطفية، وانعدام الُلحمةِ بين أفرادها. هذا الافتقار إلى التماسك (Lack of Cohesion) يظهر من خلال العزلة العاطفية، وانشغال كل فرد بنفسه، وعدم وجود إحساس حقيقى بالانتماء أو الدعم المتبادل. وعندما تترافق هذه الحالة مع النبرة المزعجة والنقد اللاذع، أو السخرية، يتحوّل المنزل إلى ساحة نزاع دائم، تفقد فيه الأسرة قدرتها على احتضان أفرادها
وتتطلب معالجة هذه البيئة الأسرية المرهقة تدخلاتٍ متعددة المستويات، من العلاج الأسرى الذى يُعَد من أنجح الوسائل العلاجية، حيث يتمكن المعالج من اكتشاف أنماط التواصل المختلة ومحاولة تعديلها، ويتيح لأفراد الأسرة التعبير عن مشاعرهم داخل مساحة آمنة، ويُشجع على فهم وجهات نظر الآخرين دون أحكام، والعلاج السلوكى المعرفى الذى يُستخدم خاصة مع الأفراد المتأثرين سلبيًا من التوتر الأسرى، كالأطفال أو الأزواج، حيث يساعدهم على تفكيك الأفكار السلبية المرتبطة بالذات والأسرة، وتعليمهم طرقًا أكثر صحة للتفاعل مع الضغوط الحياتية.

كما أن العلاج الفردى للوالدين مهمٌ للغاية فى كثير من الأحيان، يكون أحد الوالدين أو كلاهما بحاجة إلى علاج نفسى منفصل، خاصة إذا كان يعانى من اضطراب نفسى غير مُشخّص، أو من ترسبات طفولية تؤثر على طريقة تعبيره عن مشاعره، كما أنه من المهم تزويد الأهل والأبناء بمهارات تساعدهم على التعبير عن مشاعرهم بطريقة صحية وتقنيات التنفس العميق، والتأمل الواعى.
ومن أهم محاور العلاج فى الأسر المفككة استعادة التماسك الداخلى بين أفراد الأسرة، ويُقصد بالتماسك هنا الإحساس بالمصير المشترك، والدعم المتبادل، والتواصل الإنسانى الدافئ الذى يربط الأفراد ببعضهم، كما يمكن تعزيز هذا التماسك من خلال أنشطة مشتركة غير رسمية مثل الأكل والمشى والتنزُّه معًا، وتخصيص وقت أسبوعى للحوار الهادئ دون انتقاد.

فى الجلسات العلاجية، يُشجّع الإخصائى الأسرة على تطوير أهداف مشتركة وإعادة تعريف العلاقات داخلها بطريقة تحترم الفروق الفردية وتدعم الاحترام المتبادل، فالتماسك لا يُفرض بالقوة، بل يُبنى تدريجيًا عبر التفاهم والثقة، فليس كل من يعيش فى بيئةٍ مفككة يستطيع أو يرغب فى اللجوء إلى العلاج النفسى، ولهذا، فإن المساعدة الذاتية تُعد أداة مهمة لتقليل الأثر النفسى، بالوعى بالمشكلة، فأولى خطوات التغيير الاعتراف بأن هناك مشكلة تؤثر على سلامة الفرد النفسية، هذا الوعى يحرر الشخص من الإحساس بالذنب، ويفتح باب التغيير، مع إنشاء حدود نفسية داخلية، ففى البيئات السامة، من المهم أن يتعلم الفرد كيفية حماية نفسه نفسيًا من سلوكيات الآخرين، دون أن ينعزل كليًا وهذا يشمل رفض العنف اللفظى أو التجريح، أو حتى التوقف عن الدخول فى نقاشات حادّة لا تنتهى، فلنتعلم مهارات التواصل الفعّال، بأن يبدأ كلٌ منا بتغيير طريقته الخاصة فى الحديث والتفاعل، باستخدام نبرة هادئة بالإصغاء دون مقاطعة، والتعبير عن الاحتياجات بوضوح يُلهم باقى أفراد الأسرة.

TAGS
RELATED POSTS

LEAVE A COMMENT

خليل فاضل
القاهرة، مصر

كاتب ومحلل نفسي، قاص وروائي، يعالج بالسيكودراما الحديثة في مصر، له مقال أسبوعي كل يوم جمعة ينشر في صحيفة المصري اليوم، كما تشهد له قنوات اليويتيوب بعديد من اللقاءات السخية نفسية واجتماعية، كما أنه يمارس مهنة الطب النفسي منذ حوالي 41 سنة

بحث
أحدث التعليقات