مقال

هل أصبحت الجرائم عَلْكَة نلوكها يوميًا؟

بواسطة
في
ديسمبر 6, 2025

تشهد مصر فى الأيام الأخيرة سلسلة من الحوادث العنيفة والصادمة، تكشف عن حالة اضطراب اجتماعى حاد وارتفاعٍ فى منسوب العنف داخل المجتمع. وتتنوع هذه الحوادث بين جرائم أسرية، واعتداءات جنسية، ووقائع قتل بشعة، ما يعزز الانطباع بأن ثمة خللًا عميقًا يتجاوز حدود الحوادث الفردية، منها حادثة المدرسة الدولية حيث تعرّض عدد كبير من الأطفال لاعتداءات جنسية داخل المدرسة، وتورّط أربعة عاملين فى استدراج الأطفال إلى أماكن معزولة.

ما أثار الصدمة أنّ هذه الحوادث وقعت فى مؤسسة تعليمية يفترض أنها آمنة، وأن أولياء الأمور يدفعون مبالغ طائلة لتعليم أبنائهم، ويشير مجموع هذه الوقائع إلى تحوّلٍ مقلق.. فما كان قبل سنوات يهزّ الرأى العام، بات اليوم يتكرر بصورة شبه يومية، حتى تبلّد الحسّ الجمعى وأصبح الخطر أقرب إلى أى أسرة وأى شارع، فى ظل مشهد اجتماعى يبدو أكثر اضطرابًا وقسوة من أى وقت مضى.

هل نحن أمام مجتمع يتطوّر نحو الجريمة، أم أمام بنية نفسية اجتماعية تتآكل؛ فتنفلت منها الطاقة العنيفة؟ إن التحليل السايكودينامى يعلمنا أن العنف ليس حدثًا مفاجئًا، بل انفجارًا نهائيًا لرواسب مكبوتة تراكمت تحت السطح؛ فالمجتمع كالإنسان، يملك «جهازًا نفسيًا»، دفاعات جماعية، قدرة على التحمل، ومستوى من النضج الانفعالى، وحدودًا تضبط الدوافع البدائية. وحين تتآكل هذه الدفاعات يحدث ما يحدث للفرد حين ينهار: يخرج العدوان، الانتقام، التشفى، الانسلاخ الأخلاقى، الذى يتحول إلى أفعال.

بالمقارنة بين الحوادث الأخيرة تظهر ثلاث سمِات متكررة، غياب الحدّ الأخلاقى الداخلى: القاتلة فى بولاق تضرب طفلة حتى الموت، ثم أمّ الطفلة تردّ بوضع الجثة فى كيس، إنها لحظة تَعَطُّل الضمير، ويصبح الفعل الوحشى خيارًا مقبولًا، وانتحار الأب أمام طفلته لحظة إفلاس نفسى كامل؛ اختناق المعنى، وانطفاء «وظيفة الأبوة» داخله.

أما قضية المدرسة الدولية فتكشف أن الأمان المؤسسى نفسه لم يعد مضمونًا؛ أى أن المجتمع يفقد القدرة على حماية أضعف أفراده، إنها ليست جرائم معزولة. إنها علامات، ومن الخطأ أن نقع فى فخّ «شيطنة المجتمع»؛ فمصر ليست مجتمعًا «يتطور نحو الإجرام»؛ فالمجتمعات لا تتحول إلى جيوش من القَتَلة بين ليلةٍ وضحاها، لكن ما يحدث أخطر: نعيش انهيارًا تدريجيًا فى الشبكة التى تضبط السلوك.. حالة فوضى أخلاقية، ضياع للمعايير، وانفصال بين الفرد والمجتمع؛ فحين يفقد الناس إحساسهم بالمعنى والانتماء، يصبح الفعل العنيف سهلًا.

إن أهم أربع ركائز اجتماعية ضعُفت فى السنوات الأخيرة.. العائلة: لم تعد ملجأ ولا منظومة تربية، بل تحولت أحيانًا إلى مساحة ضغط وانسحاب وصراعات مكتومة، الفضاء العام: الشارع، النادى، المواصلات… كلها أصبحت ساحات توتر، لا مساحات اندماج؛ فعندما تنشغل الحكومة بأولويات أخرى، يغيب الحضور التربوى والثقافى، وينسحب «الضابط الرمزى» للمجتمع، ويصبح السلوك بلا نسَب ولا مرجعية.

هناك فرق بين «عنف موجود دائمًا» و«عنف يتوحش»، والأحداث الأخيرة تكشف أننا أمام تصعيد نوعى، الجانى فى المنصورة لم يقتل فقط؛ بل فصل الرأس والعضو التناسلى. هذا السلوك ينتمى لما يسميه علماء الجريمة بـ Overkill: استخدام عنف مفرط يتجاوز الحاجة لإزهاق الروح. دليل على احتقار الذات، ورغبة فى المحو.

إن الفرد يعيش اليوم تحت ضغوط متداخلة: قلق اقتصادى خانق، صدمات متتابعة، تلوث بصرى وسمعى، حياة بلا مساحات راحة، علاقات متوترة، إحساس مستمر بالفقد. هذه الضغوط لم تعد تُفرّغ فى العمل أو الرياضة أو العلاقات… بل تتراكم؛ فتبحث عن مخرج قد يكون: عنفًا، إدمانًا، تحرشًا، انتحارًا، أو جريمة وحشية بلا تفسير. وكأن المجتمع يعيش حالة «انسداد وجدانى»؛ فليس هناك تفريغ صحى، ومن ثمّ تنفجر فى أقرب ثغرة.

هناك انهيار المعايير، والوظائف الاجتماعية، والدفاعات النفسية. إن الجريمة ليست «نتاج مجتمع شرير»، بل نتاج مجتمع مُرهَق، مضغوط، مأزوم، فاقد لشبكات الحماية.

نحتاج لمشروع وطنى لإعادة بناء الصحة النفسية للمجتمع: حملات توعية، مساحات آمنة للأطفال، تدريب للمدارس، دعم للأهل، وعودة الثقافة والفن؛ فالفن ليس ترفًا؛ بل «جهاز المناعة الروحى» للمجتمع، وحين يغيب الفن الحقيقى تغيب القدرة على تهذيب الانفعالات. لا بد من إعادة هيكلة دور المدرسة، وتدعيم الأسرة عبر برامج دعم الوالدين. خطاب دولة واضح؛ فحين تحدث جرائم من هذا النوع، يجب أن يكون هناك: خطاب رسمى، اعتراف بالمشكلة، ورؤية للحل.

TAGS
RELATED POSTS

LEAVE A COMMENT

خليل فاضل
القاهرة، مصر

كاتب ومحلل نفسي، قاص وروائي، يعالج بالسيكودراما الحديثة في مصر، له مقال أسبوعي كل يوم جمعة ينشر في صحيفة المصري اليوم، كما تشهد له قنوات اليويتيوب بعديد من اللقاءات السخية نفسية واجتماعية، كما أنه يمارس مهنة الطب النفسي منذ حوالي 41 سنة

بحث
أحدث التعليقات
    الأرشيف