مقال

كيف يتحول الفساد البنيوى من خلل تنظيمى إلى نمط نفسى واجتماعى؟

بواسطة
في
ديسمبر 13, 2025

ما يلفت الانتباه فى مقال دينا عبد الفتاح عن الفساد الادارى ٢٣/١١/٢٥، ليس فقط تشخيصها لفكرة الفساد البنيوى، بل قدرتها على الخروج من ثنائية الموظف الفاسد والموظف الشريف، إلى مستوى أكثر تركيبًا.. مستوى البنية نفسها التى تُعيد إنتاج الخلل، حتى لو تغيّر الأشخاص والسياسات. ومع أن هذا التشخيص كافٍ لإثارة سؤال الإصلاح؛ فإنه يظل أسير لغة الإدارة والهندسة المؤسسية، أكثر منه منفتحًا على ما يحدث داخل البشر الذين يشغلون هذه البنية ويديمونها فى كل توقيع وختم وقرار.

من هنا يمكن فتح الاشتباك من زاوية سيكودينامية سوسيولوجية، لنسأل: كيف يتحول الفساد البنيوى من مجرد خلل تنظيمى إلى نمط وجود نفسى واجتماعى؟ وكيف يساهم التاريخ والخوف وصورة الذات الجماعية فى تثبيت هذا النمط حتى ونحن نعلن رغبتنا فى إصلاحه؟

الجهاز الإدارى الذى تتحدث عنه الكاتبة لم يعد قادرًا على ملاحقة عصر سريع، وفى ظل التعقيد والتراكم وضعف الشفافية تتكوّن مسارات غير رسمية، تصبح بالتدريج ثقافة عمل راسخة، لكن السؤال الأعمق: لماذا يتمسّك الناس بهذه المسارات رغم إدراكهم أنها مُرهِقة للجميع؟ يرتبط ذلك بالخبرة النفسية الطويلة للمصرى مع الدولة، جهاز ضخم، أبوى، شديد المركزية، يملك السلطة على الدخل والتنقل والاعتماد المهنى، أمام هذا الأب-الدولة يتعلم الفرد أن ينجو بالحيلة لا بالمواجهة، بالعلاقة لا بالحق، باللَّفة الخلفية لا ببابٍ صريح، وهكذا يصبح التعقيد الإدارى دفاعًا نفسيًا جماعيًا لا مجرد خطأ تصميم؛ فالموظف يحمى نفسه بالورق والتوقيعات، والمواطن يحمى نفسه بالمعارف والوسائط، والمدير يحمى نفسه بتأجيل القرار ورميه إلى لجان لا تنتهى، والجميع يتصرف من منطلق خوفٍ دفين من اللوم أو الإدانة أو فقدان السيطرة.

وتشير الكاتبة بوضوح إلى التحيز نحو أهل الثقة على حساب أهل الكفاءة، لكنها تقدمه أساسًا بوصفه نمطًا إداريًا يتجنب المخاطرة، غير أن زاوية الرؤية النفسية تكشف طبقة أخرى: التحيز لأهل الثقة ليس فقط للحفاظ على الاستقرار، بل حفاظًا على صورة الذات؛ فالمسؤول يختار من يشبهه، من لن يواجهه بأسئلةٍ صعبة، من لن يهدد توازنه أو يضع أداءه فى مرآة علنية، إنه شكل من أشكال الأمان النرجسى، لا مجرد خيار تنظيمى، وهكذا يصبح الفساد البنيوى بنية نفسية قبل أن يكون بنية إدارية: بنية تخاف المواجهة، تخشى التقييم الموضوعى، وتهرب من الشفافية لا لأنها غير فعالة، بل لأنها تهز تمُثّلات الهوية المهنية لمن بيده الأمر.

وإذا ابتعدنا قليلًا لننظر إلى البعد السوسيولوجى، سنجد أن ما يحدث داخل الجهاز الإدارى يشبه فى كثير من جوانبه نموذج العائلة السلطوية فى التاريخ الاجتماعى المصرى؛ فالأب الذى يملك القرار، والأم التى تدير التفاصيل، والأبناء الذين يتعلمون من الصغر أن النجاة ليست بالحوار والحق، بل بالإرضاء وتجنب الغضب؛ فحين ينتقل هؤلاء الأبناء إلى الجهاز الإدارى لا يدخلون بعقلٍ فارغ، بل بنموذج علاقات جاهز؛ فالمدير يصبح الأب الذى يجب إرضاؤه، والزملاء الأقرب يصبحون الإخوة الذين تحتاج تحالفهم، والمواطن يصبح الطفل الذى يمكن إدارته، والقواعد تصبح أوامر الأسرة التى يمكن الالتفاف عليها سرًا، إذا اتفق الجميع.. فى مثل هذه البنية، يصبح الحديث عن هندسة الإجراءات شبيهًا بإعادة ترتيب الأثاث فى بيتٍ لم تُعالَج فيه علاقات أفراده أصلًا.

تقترح الكاتبة حلولًا مهمة تتعلق بالبنية المعلوماتية والشفافية وربط الرقابة بالبيانات، وهى شروط لا غنى عنها. لكن التجربة المحلية والعالمية تقول إن الشفافية وحدها لا تخلق الثقة. قد نكشف البيانات، لكن إذا بقيت علاقة المواطن بالدولة، محكومة بالريبة والخوف وانعدام الاعتبار المتبادل؛ فإن البيانات تتحول بسهولة إلى مادة جديدة للشك، لا إلى أساس لعقد اجتماعى جديد.

إن الفساد البنيوى ليس فقط نقص معلومات، بل نقص ثقة متبادلة: المواطن يفترض أن الجهاز سيعرقله ما لم يؤمّن نفسه بعلاقة أو خدمة، الموظف يفترض أن المواطن يحاول استغلاله، والمسؤول يفترض أن من تحته غير جديرين ما لم يثبتوا ولاءهم الشخصى، بدون إصلاح هذا الخلل فى المِخيال الجمعى، ستظل الإصلاحات الإدارية تشتغل على السطح.

إن الإصلاح يحتاج إلى تغيير طريقة تخيّلنا لأنفسنا داخل المنظومة، وإلى تدريب حقيقى على فهم آليات الدفاع النفسى، وكيف يتحوّل انعدام الثقة إلى فساد ناعم، والمُحاسبة إلى تهديد شخصى.

TAGS
RELATED POSTS

LEAVE A COMMENT

خليل فاضل
القاهرة، مصر

كاتب ومحلل نفسي، قاص وروائي، يعالج بالسيكودراما الحديثة في مصر، له مقال أسبوعي كل يوم جمعة ينشر في صحيفة المصري اليوم، كما تشهد له قنوات اليويتيوب بعديد من اللقاءات السخية نفسية واجتماعية، كما أنه يمارس مهنة الطب النفسي منذ حوالي 41 سنة

بحث
أحدث التعليقات
    الأرشيف