دماغ العبيط فى عبه و المخ العفن
جلس عالمٌ بين مجموعةٍ من التجار فى الهجع الأخير من الليل، بدافع الفضول وتلبيةً لاستضافة المِعَلِّم، ولمّا بدأوا فى لفّ الحشيش رفع يده لأعلى وقال: «ماتعملوش حساب الباشا الدكتور، لإنه عامل دماغ من غير ما ياخد حاجة»، إشارةً إلى أن ذلك العالم كان يمتلك المزاج والتوازن دون الحاجة إلى أى منبهات أو مخدّرات.
أما «دماغه جزمة قديمة»؛ فوصف ازدرائى لشخص يحمل أفكارًا متحجِّرة لا تتماشى مع العصر الحالى، أما «دماغ العبيط فى عِبُّه»؛ فيُستخدم لوصف شخص يثق فى الناس بسهولة، ودون إعمال المنطق أو توخّى الحذَر، ولكن «المخ العَفِن» هو الذى ينتج عن سوء استخدام الإنترنت عمومًا، وفى مجال السوشيال ميديا خصوصًا، ومن ضمنها تصديق كل أو مُعظم ما يقال دون تمحيص، وفى هذا العام طرحت أكسفورد ملكة اللغة الإنجليزية كلمة العام ٢٤ التى صوت لها ٣٧.٠٠٠ إنسان Rot Brain أو المخ العَفِن، ويعنى ذلك انحدار الوعى والفهم والإدراك الإنسانى كنتيجة للاستهلاك الزائد عن الحد للمحتويات التافهة أونلاين، وقد يبدو ذلك أمرًا تافهًا لا يدعو للحذر، ولكنه فى واقع الأمر خطير، لأنه يصيب المراهقين والشباب، بما يشبه العَتَه الاجتماعى، أو عِلّة عدم تقدير الأمور وفهمها، وانخفاض مستوى المهارات الاجتماعية إلى الصفر؛ فتجدهم يتحدثون كالأطفال، وغير قادرين على فهم أمور الحياة الحديثة وتعقيداتها.
فى عصر التكنولوجيا فى السنة الفائتة، وعلى عدد من المنصات الاجتماعية بالتحديد «التيك توك» لجيل ألفا وZ أن تعبير «المخ العَفِن» منتشرٌ كالنار فى الهشيم فى المقالات النقدية والعلمية والشأن العام، الأمور التى تهم حال المجتمع ووجوده.
هناك مُحتوى ضخم على السوشيال ميديا له تأثير سلبى عظيم على من يستهلكونه، وبالتالى فإنه عامل انحدار وإهلاك شديد للمجتمعات حول العالم، إنها ثقافة تافهة تبدو فكاهية لكنها محزنة، والذى ابتدع مصطلح Rot Brain، هو نفس الجيل الذى يعانى من الظاهرة المُخيفة، إنه على وعى بالمصيبة، ويذكرنى ذلك بأحد الشبان كان جالسًا لا يصلب طوله؛ فقلت له «افرد نفسك يا ابني»؛ فضحك وقال: «معلش أصل إحنا جيل متْنِى».
إن تعبير «المخ العفن» يساوى فى مفهومه «فقدان الذاكرة الرقميDigital Dementia »، الذى اصطلحه عالم الأعصاب الألمانى Spitzer، ويعنى به التأثر السلبى البالغ على الذاكرة والتركيز، والاعتماد الكُلى على الأجهزة الرقمية، فى البيت وفى العمل، وأشار إلى أن هذه التكنولوجيا ستؤدى إلى تغيرات هيكلية ووظيفية فى مخ الإنسان، ومن الممكن إن تؤدى إلى ازدياد نسبة استخدام الخلايا العصبية فى توافه الأمور ومن ثمّ تلفها، وعدم توليد خلايا عصبية جديدة Neurogenesis ومن ثم يصاب الإنسان بالزهايمر وغيره فى سن أصغر فى الأجيال القادمة، وهذا خطير خاصةً فى مراحل النمو والتطور لأنه يؤثر على الوعى والإدراك والمزاج والسلوكيات، خاصةً فى المراهقين والشباب، وثبت ذلك فى أكثر من بحث علمى، بمعنى أن هناك تأثير حسِّى معرفى سلبى مزمن من الشاشات، يؤثر على تطور ونمو المخ بشكل صحى وصحيح، يؤدى فى النهاية إلى انهياره بشكل كامل، وهناك من يعارض هذا من العلماء؛ فيرون أنه لا دليل قوى على هذه الأطروحة، وأن المسألة تعتمد على نسبية الاستخدام وعلى قدرات الشخص، وبنيته التحتية النفسية البيولوجية والاجتماعية.
من ناحيةٍ أخرى فإن Google effect، أنك بدأت تنسى كل شيء وتعتمد على الأونلاين، ولا تبذل مجهود للتذكر بسبب سهوله الحصول على المعلومات من خلال محركات البحث كجوجل، مما أدى إلى عدم الاحتفاظ بمعلوماتك كثيرًا؛ المسالة معقدة، وفى العيادات النفسية والعصبية، لا بد من إقحام المريض فى نشاطات مختلفة وبسيطة قدر الإمكان، حتى فى تلك البؤر التى لا يتحرك فيها الإنسان، ولا يفكر ولا يعمل مثل بعض النساء فى بعض النجوع والكفور والقرى فى جنوب مصر ودلتاها، من المهم جدًا قراءة كتب ورقية والتفاعل وجهًا لوجه واللعب المُسَلِّى، وتحقيق صداقات وانفعالات وتفاعلات وورش عمل، والانخراط فى مجموعات ثقافية، وحضور ندوات ومعارض الفن التشكيلى وغيره.
ومن المهم جدًا تعميق الوعى بتأثير الإعلام الرقمى، على الصحة الذهنية وعلى كيان المخ، ومن ثم فإن هذا التعبير «المخ العَفِن» لا يحتاج إلى هاملت جديد ليقول لنا: «إن هناك عفنًا فى الدنمارك، لكن ليقول هنا عفنٌ داخل رأسك».