غزة.. الأرض والذاكرة
يفتح الرجل البرتقالى فاه؛ فتنطلق التصريحات الواحد تلو الآخر، وفى نفس الوقت يبلع مع كلماته المليارات، تحت دعاوى ووصايا وجمارك، وحينما يأتى الأمر للشعوب والإنسان والأرض؛ فالأمر جدّ مختلف إلى أبعد الحدود.
إذا كان المكان نصًا متغيرًا، فإن غزة هى أحد أكثر تلك النصوص كثافةً وتعقيدًا، إنها ليست مجرد قطاع بل أرض تحمل فى جغرافيتها ذاكرةً متراكمة من المقاومة والدمار، الحياة والموت، الحصار والصمود، وكل محاولة لمحو غزة أو تفريغها من سكانها، ليست مجرد تصريحات هوجاء أو هدم لمبانيها، بل هى محاولة لإعادة كتابة نصها وفقًا لرؤية جديدة، وهو ما يتعارض مع طبيعة المكان والزمان والناس.
إن ما طرحه ترامب حول تهجير أهل غزة ليس مجرد اقتراح سياسى، بل هو ضربٌ من العبث، ومحاولة لاقتلاع الجذور من تربتها، وهو أمرٌ لا يستقيم لا منطقيًا ولا تاريخيًا مع الإصرار المُعاش.
إن المكان ليس مجرد جغرافيا، إنه هويةٌ حية، وذاكرةٌ ممتدة عبر الأجيال، لا يمكن اقتلاعها دون اقتلاع سكانها نفسيًا وعاطفيًا قبل أن يكون جسديًا؛ فالتهجير ليس مجرد نقل أجساد، بل هو محاولةٌ لمحو الذاكرة، وهو أمر مستحيل لأنها الذاكرة لا تُمحى بالترحيل، بل تصبح أكثر كثافةً، وهذا بالضبط ما حدث بعد نكبة ١٩٤٨ وهزيمة ١٩٦٧
حين تم تهجير الفلسطينيين قسرًا من أراضيهم فى ١٩٤٨ لم يكن مجرد حدثٍ عابر، بل تحوّل إلى أساسٍ لهويتهم الوطنية اليوم، ومحاولة تهجير غزة لن تكون مجرد «نكبة جديدة»، بل إعادة إنتاج أكثر تعقيدًا للنكبة، حيث أصبح الفلسطينى أكثر وعيًا بمكانه، وأكثر ارتباطًا به رغم كل محاولات القتل والحصار، ولكن لماذا يتشبث هكذا الإنسان بجذوره حتى لو كانت أطلالًا؟ إن ارتباط الفلسطينى بالأرض غريزى، ليس فقط باعتبارها موطنًا مادّيًا، بل كامتدادٍ للهوية والذاكرة والوجود، وعبر التاريخ رأينا أناسًا يتشبثون بأرضهم حتى لو كانت قاحلة، مهجورة، أو مدمّرة.
إن الإنسان لا يعيش فقط فى المكان، بل يعيش به ومن خلاله، والأرض ليست مجرد مساحة جغرافية، بل هى سجلّ من الذكريات، الأصوات، والروائح والشهداء والدماء، كل الذى يُشكّل وعيه وتاريخه، ولو صارت الأرض بورًا، فإنها تظل مشحونةً بحضوره العاطفى والرمزى، الأرض امتداد للذاكرة الجمعية، وتكتسب قيمةً رمزيةً تتجاوز فائدتها المادّية؛ فالقرى القديمة، والبيوت المهجورة، وحتى المقابر، تصبح مرآةً تعكس تاريخ الناس وهويتهم
ومن منظور التحليل النفسى، يرتبط الإنسان بأرضه كما يرتبط الطفل بأمّه، إنها توفر له الشعور بالأمان والاستمرارية، حتى لو لم تعد توفر له الحياة الفعلية، وفى أحيانٍ كثيرة، يفضّل الإنسان البقاء فى أرضٍ مدمّرة على أن ينتقل إلى مكانٍ مجهول، يفقده الإحساس بالأمان، بينما حتى الخراب الذى يعرفه يظل مألوفًا وأكثر حميمية.
إن الأرض ليست مجرّد تراب، بل نصٌّ مفتوحٌ للقراءة؛ فالإنسان يعيد تأويل المكان كلّما تغيّر، حتى لو تحوّل إلى أرضٍ يباب؛ فالخراب نفسه يصبح شاهدًا على قصة عاشها الإنسان، وحين يغادره، يشعر وكأنه يهجر جزءًا من حكايته التى لم تكتمل، والإنسان لا يبحث فقط عن الأرض كمصدر للحياة، بل كمصدرٍ للمعنى، لأنها تظل شاهدةً على حكاياتٍ لا يريد لها أن تُنسى.
الأرض ليست مجرد مساحة جامدة، بل هى نصٌ حىّ، يتحرك ويتغيّر بتغيُّر الإنسان الذى يعيش عليها، إنّ كلّ شبرٍ من الأرض يحمل آثار من مرّوا عليه، وما تركوه من علامات وذكريات، لتصبح الأرض نفسها نوعًا من «السرد المفتوح» الذى يُعاد تأويله مرارًا عبر الزمن.
حين انهارت كل أحياء غزة، لم تنته قصتها، بل تغيرت طريقة سردها، وبدَت كتاريخٍ يُمحى قسرًا، إن غزة سجلّ جماعى للغزاويين، حيث تُحفَظ بصماتهم وأحشاؤهم وأثاث منازلهم وأفراحهم وأهازيجهم.
إن الذى يسير فى غزة الآن يقوم بفعل «القراءة»، فالحجارة والأنقاض والأبواب المتهالكة، والطرقات المُجرَّفة، كلها كلمات غير منطوقة تحكى قصص الفلسطينيين.
«هنا والآن» غزة تستفزّ المخيلة أكثر من غيرها، لأنها مليئة بالفراغات والتواريخ غير المكتملة، وهنا يأتى الفلسطينى الطفل والكهل، اليتيم والأرملة، الثكالى والمُصابين لملء تلك الفجوات، عبر الإصرار والتحدّى.
«أنا الأرضُ. والأرضُ أنتِ. خديجةُ! لا تغلقى الباب. لا تدخلى فى الغياب. سنطردهم من إناء الزهور وحبل الغسيل. سنطردهم عن حجارة هذا الطريق الطويل» محمود درويش.