آفة حارتنا الإنكار
الإنكار خطيئة تتقنها الحكومة حين تريد النجاة من الحقيقة، ويمارسها الفرد حين يعجز عن مواجهتها.
فى مصر، كما فى كثير من المجتمعات التى تئن تحت وطأة التهميش والتناقضات الطبقية، لا يُعد الإنكار مجرد آلية دفاع نفسية عابرة، بل أسلوب حياة، يُدار به الخطاب العام، وتُصاغ به نشرات الأخبار، وتُبنى عليه كثير من التصريحات.
حين تقع كارثة إنسانية، كحادث قطار أو غرق عبّارة أو انهيار طريق، لا يُسارع المسؤولون إلى تحمّل المسؤولية، بل إلى صناعة رواية بديلة. فيصبح المذنب مجهولًا، والحادث «قضاءً وقدرًا»، وكأن الحكومة لم تكن موجودة، وكأن لا أحد كان يجب أن يراقب أو يحاسب أو يمنع.
هنا الإنكار ليس فقط نفيًا للحدث، بل نفيًا للذنب، للخلل، للمسؤولية الأخلاقية. فى مؤتمر صحفى، يقول مسؤول بارز: «إحنا ما عندناش أزمة». وفى نشرة الأخبار: «الوضع تحت السيطرة». ولكن فى الشارع، الواقع يصرخ، ويصير الإنكار ستارًا من دخان، يحجب العجز عن الرؤية، لكنه لا يلغيه.
ليس غريبًا أن تنتقل العدوى إلى القاعدة. فالموظف الذى يكرر «أنا مالى؟»، والمدرس الذى لا يرى فسادًا فى نظام التعليم، والأب الذى ينكر أثر العنف على ابنه، كلهم يعيشون تحت سقف سردى واحد: «كل شىء تمام، المشكلة مش عندى، المشكلة فى الآخر».
نحن ننكر أن المدرسة تنهار لأنها لا تزال قائمة. ننكر أن غياب العدل أحيانًا وعدم تكافؤ الفرص يقتل الروح، لأن المقاهى ممتلئة والضحك لا يزال مسموعًا. ننكر الفساد، لأننا ألفناه، والظلم الإدارى، لأننا عايشناه حتى فقدنا الإحساس به.
الإنكار وسيلة دفاع نفسى من جانب، لكنه أيضًا خضوع ضمنى لواقع لا نملك تغييره؛ فبدلًا من أن نصرخ، نكذب على أنفسنا. وبدلًا من أن نثور، نرتب أرفف الوهم.
يجد الإنكار بيئته المثلى فى الشاشات. تُفتَت الحقائق، وتُفرَغ المصائب من مضمونها، وتُعرض الجرائم كحوادث فردية. والإعلام، الذى يُفترض أن يكون ضميرًا جمعيًا، صار أداة تزويق، يدهن بها الحائط المُتصدِّع بلون وردى، ويعلق عليه ابتسامة المذيع.
أخطر ما فى الإنكار أنه ليس فقط خداعًا للآخرين، بل هو خداع للذات. حين ينكر المسؤول مسؤوليته، ينكر معها وجود عدالة. وحين ينكر الطبيب أخطاءه، ينكر حق المريض فى الحياة. وحين ينكر المجتمع ما تعانيه المرأة أو الفقراء أو الأطفال أو كبار السن، فإنه ينكر إنسانيته.
الإنكار يُميت الضمير بالتدريج. فكل مرة نقول فيها: «عادي»، أو «حصل قبل كده»، أو «الناس فى أحسن حال؟»، نحن نحفر قبرًا صغيرًا داخل وعينا الجمعى، ندفن فيه القدرة على الغضب، وعلى الحلم، وعلى المواجهة. ولأن الاعتراف مؤلم. ولأن قول الحقيقة يحمّلنا عبء التصحيح والتغيير؛ فالإنكار يُعفينا من الفعل. يجعلنا نظن أننا على ما يرام. ولأنه لا توجد مساحة آمنة للنقد، ولا ثقافة عامة للمحاسبة، عندئذ يصبح الإنكار هو السبيل الوحيد للبقاء دون انفجار.
لكن هذا المسار خادع. لا يُنقذ السفينة، بل يثقبها بثقوب أعمق.
ما يُنقذ مجتمعًا ليس كثرة الكلام، بل شجاعة الاعتراف. أن نعترف أن لدينا نظامًا صحيًا منهكًا، وتعليمًا مشلولًا، واقتصادًا يترنح، لا يعنى هذا أننا نحب الوطن أقل، بل ربما أكثر. لأن الحب الحقيقى يبدأ حين نرى القبح ونواجه.
إن الصحفى الذى يقول الحقيقة، والمدرس الذى يفضح التجهيل، والطبيب الذى يكتب تقريرًا صادقًا، كلهم يكسرون دوائر الإنكار. وينزعون القناع عن وجه المرض، لا ليجلدوه، بل للبحث عن شفاء.
الإنكار يُسكّن الألم، لكنه لا يقتل الورم. الإنكار الذى جعل المأساة روتينًا، والمصيبة خبرًا عابرًا، والفقر قدرًا مقدسًا.
الإنكار آلية دفاعية لاواعية تستخدمها الأنا لحجب حقيقة مؤلمة أو تهديد داخلى، عبر نفى الواقع أو تجاهله، حفاظًا على تماسك الذات ومنع الانهيار النفسى. وإذا أردنا وطنًا لا يتآكل، يجب أن نبدأ بكشف القشرة، بنزع ورقة التوت عن الزيف، وأن نقول بصوت واضح: «هناك خلل». فالمواجهة ليست ضعفًا… أما الإنكار فهو الضعف الحقيقى.
قد يعجبك أيضا

من القاهرة إلى الإسكندرية وأسوان والعكس.. مواعيد القطارات اليوم السبت

لليوم الثاني.. فتح باب التصويت بـ انتخابات مجلس الشيوخ بسفارة مصر في ل…

حار رطب نهارًا.. تعرف على حالة الطقس اليوم السبت في شمال سيناء

بيان عاجل بشأن حالة الطقس اليوم: أمطار خفيفة تصل إلى القاهرة وعدة محاف…

كم سجل عيار 21 الآن بعد آخر ارتفاع؟.. أسعار الذهب عالميا اليوم السبت 2…

في غياب وسام أبو علي.. كولومبوس يفوز على بويبلا بثلاثية في كأس الدوريا…

تحبي تكوني «strong independent woman» ماذا تعرفي عن معناها؟ (فيديو)

«انتعاشكِ يبدأ من هنا».. وصفة منزلية لغسول لطيف وآمن للمناطق الحساسة
أهم الاخبار
قد يعجبك أيضا

بعد انخفاضه.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم السبت 2-8-2025
جميع الأخبار
-
10:33
بينهم 12 من منتظري المساعدات.. استشهاد 22 فلسطينيًا برصاص الاحتلال في غزة
-
10:29
متاحف الإسكندرية تحتفل باليوم العالمي للتصوير الفوتوغرافي (صور)
-
10:12
الثوم بـ70 جنيهًا.. أسعار الخضار في أسواق الإسكندرية اليوم السبت 2 أغسطس 2025
-
10:04
أسعار الأسماك في سوق العبور اليوم السبت
-
10:00
بعد انخفاضه.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم السبت 2-8-2025
الأكثر قراءة
النشرة البريدية
اشترك في النشرة البريدية من المصري اليوم
- من النسخة الورقية
- العدد: 7718
- جميع الاعداد
الإنسانية تهزم البغيناجح إبراهيمالجمعة 01-08-2025 04:40
■ الإنسان محور الكون، وقد كرم الله الإنسان «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ»، وفى هذه المقاطع أتحدث عن الإنسان مهما كان لونه وعرقه ودينه، فمن لم يكتب عن الإنسان والإنسانية لا يستحق قلمه أن يعيش.
مقالات متعلقة
- الحج.. المسيرة المليونية المباركة
- نكبة فلسطين.. الآن فى كل لحظة
- النجاشي ومانديلا وجنوب إفريقيا
■ ودعت فيروز ابنها زياد رحبانى، رثته قبل دفنه بكلمات رائعة وصوت شجى دون موسيقى اكتفاء بموسيقى أحبالها الصوتية: «حبيبى.. حبيبى، يا ولداه خاطبنى، كيف أراك عريان، ولا أبكيك يا ابنى، أوجاعك حرقت أكبادى، آلامك خرقت فؤادى، أَحَيَاة لوالدتك يا ولداه بعد موتك، حبيبى.. حبيبى يا ولداه خاطبنى»، أبكت الحضور بهذه المرثية الجميلة.
■ من المعلوم أن فيروز ودعت من قبل ابنتها ليال بعد وفاة مفاجئة، ومنذ أيام ودعت ابنها زياد الذى كان رفيق عمرها وتوأمها بعد صراع شديد مع المرض. فيروز كانت تمثل لجيلنا قيمة كبرى، فقد نصرت العروبة وفلسطين والقدس، وغنت للقدس ولمحمد والمسيح عليهما السلام، ولم تعرف التعصب الدينى ولا المذهبى. وكان علم فلسطين حاضرًا بقوة فى الجنازة، فقد عاش زياد ومات من أجل فلسطين ودعم الفقراء.
■ قام متظاهرون بريطانيون بمظاهرة إنسانية فريدة حيث جمعوا قرابة ألف وعاء مطبخ فارغ وأخذوا يطرقون عليها أمام مكتب رئيس الوزراء تذكيرًا بمأساة تجويع سكان غزة. جهد مشكور من شعب نبيل، تحية للأحرار فى كل مكان.
■ تحية لهمة وعزيمة «عربى نعمان» أول معيد كفيف «كريم البصر» بجامعة سوهاج يحصل على درجة الماجستير بامتياز بكلية الآداب بالجامعة. كانت لحظة التتويج لحظة إنسانية وعلمية فريدة وفارقة فى حياة الباحث والجامعة أيضا، حيث حرص معظم الأساتذة بالكلية على الحضور. أشرف على الرسالة الأكاديمى الإنسان والمبدع د/صابر حارص، وصدق من قال: «ذو همة يحيى أمة».
■ جلس الطفل الغزاوى الجائع الذى لا يجاوز الرابعة من عمره يأكل مكرونة فى طبق صغير، جاءت قطة لتشاركه طعامه القليل، تركها تأكل من الطبق، جاءت قطة أخرى تأكل معها، تركهما يأكلان من طبقه، لم يعطياه فرصة ليأكل لكنه كان سعيدًا، كأنه يشعر بجوعهما وينظر إليهما بإشفاق. طفل بدرجة إنسان كريم.
■ أُقيم معرض بألمانيا يحاكى تجويع أهل غزة، ويعرض المأساة بطريقة مؤثرة، كان الجميع يقف عند المعرض، البعض يبكى، البعض ينهار فلا يستطيع الوقوف من هول المناظر. تحيا الإنسانية التى تنبض فى قلب الإنسان الذى كرمه الله مهما كان دينه ولونه وعرقه.
■ على مدار ٧ سنوات كاملة وهى تحمل ابنها الشاب المعاق بدنيًا لتوصله للمدرسة الثانوية ثم جامعة دمياط، تحمله على كتفها، تنتقل به من ميكروباص لآخر، وتحمله حتى تدخله فصله الدراسى حتى تخرج من الجامعة. أمومة فوق الخيال، وإنسانية تهزم المستحيل.
■ يا الله.. أريد أن أبقى إنسانًا، اجعلنى كسرة خبز لأسرة لم تأكل من أسبوع، اجعلنى عكازًا لرجل بترت الحرب رجليه، اجعلنى رداءً صوفيًا لطفل فى غزة يرتعش من البرد. كلمات قالها شاعر فى حفل تخرج بإحدى الجامعات فى الخارج.
■ طفل صعيدى يبيع التين فى إحدى ضواحى القاهرة، جاءه طفلان يسألان عن سعر التين ثم انصرفا، نادى عليهما، عرف أنهما لا يملكان الثمن فأعطاهما ما يحتاجان مجانًا. هذا فيديو منتشر على مواقع التواصل، البائع الصغير يلبس جلبابًا قرويًا بسيطًا ينم عن بساطته وفقره، ولكن إنسانيته وكرمه غلبت فقره وحاجته.
■ تداول رواد التواصل الاجتماعى صورة طفل غزاوى لا يجاوز الرابعة من عمره مبتور اليدين والقدمين وهو يلهو بدمية على شكل طائر، وهو يقبلها ويمسح على رأسها، وكأنه يقول للدنيا: رغم أن إسرائيل دمرت حياته وحرمته من الحركة ولم ترحمه، إلا أن الرحمة فى قلبه وسيبثها للكون كله حتى دميته الصغيرة. قلوب لا تعرف اليأس، وخاصة أن لهذا الطفل صورًا أخرى وهو يحاول التحرك حبوا على مقعدته بتشجيع والده. تحية لهذا الشعب الأبى القوى الذى يملك عزيمة أقوى من الجبال.
■ غلام صغير يبيع التين الشوكى أسفل عيادتى بحى شعبى فى الإسكندرية، علمت من الجيران أنه يساعد أسرته رغم أنه فى الصف الأول الثانوى، أكبرته لكفاحه، فقد كافحنا كثيرًا فى بداية حياتنا فى الصيف تارة من أجل شراء عجلة أو ساعة ونحو ذلك. كانت هذه الأشياء عزيزة فى الستينات، فقد كان مرتب خريج الجامعة وقتها ١٧ جنيهًا، ولكنها كانت تصنع الأعاجيب. حرصت على دعمه ودوام الشراء منه، يصعد يوميًا لعيادتى.
■ التين الشوكى وموسمه مصدر رزق للأسر الفقيرة فى الإسكندرية، ومهنة لأطفال إسكندرية الفقراء، ولكل الصعايدة الذين يبحثون عن عمل شريف. تحية للشرفاء، والباحثين عن العمل الشريف واللقمة الحلال. شعار الطبقة الوسطى الدائم «الحمد لله»، فهى تحمل رغم فقرها مخزونًا هائلًا من القيم النبيلة.
■ رأيت سيدة تساوم طفلًا يبيع التين الشوكى، فنصحتها برفق لتترك مساومته واعتبارها صدقة مخفية، فقبلت ذلك.
قد يعجبك أيضا
أهم الاخبار
قد يعجبك أيضا
جميع الأخبار
-
10:33
بينهم 12 من منتظري المساعدات.. استشهاد 22 فلسطينيًا برصاص الاحتلال في غزة
-
10:29
متاحف الإسكندرية تحتفل باليوم العالمي للتصوير الفوتوغرافي (صور)
-
10:12
الثوم بـ70 جنيهًا.. أسعار الخضار في أسواق الإسكندرية اليوم السبت 2 أغسطس 2025
-
10:04
أسعار الأسماك في سوق العبور اليوم السبت
-
10:00
بعد انخفاضه.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم السبت 2-8-2025