ثقافة الاستعلاء على الآخر في السياق المصري
كما يتعلم الحصان الرقص ويحجِل، يفعل أولئك الذين يستعذبون الرقص فوق مشاعر الآخرين بالاستعلاء والتكبُّر والتغوُّل والتجاهل والتجبُّر والإذلال والإكراه، وكأنهم بالفعل يسرقون من قلوبهم ويعطونهم فى جيوبهم، كى يسدُّوا رمقهم ويرووا ظمأهم فقط لا غير.
«أنا ابنى لازم يطلع الأول فى المدرسة وفى الجامعة، وياخد الماجستير والدكتوراه من بلاد برَّه ويتعين فى أحسن وظيفة، ويكون جميل الطلعة وحسن الخُلُق ولبسه حلو، وبطل فى السباحة، ويتجوز أجمل واحدة، وأنا جميلة الجميلات من نسل الأشراف، وزوجى صاحب الثروة والنفوذ، ولا يجوز لأحد أن يبارينا»، هكذا من الممكن أن تقول أم من الأمهات ضمنًا أو علنًا، إنها تلك الرغبة فى التفوق والاستعلاء أحيانًا بدون وجه حق، وتبوأ المكانة ربما التى لا يستحقها إلا صاحبها البسيط ابن رجل عادى رقيق الحال بمجهوده وذكائه.
ألهمنى العدد الأخير من المطبوعة الوقورة «أحوال مصرية» الذى خُصِصَّ بالكامل «للاستعلاء وأنماطه فى مصر» لأن أغوص فى عُمق الموضوع؛ فمن منظور التحليل النفسى العميق، يمكن فهم ثقافة الاستعلاء على الآخر كميكانزم دفاعى نفسى، ربما لتعويض مشاعر الدونية والقلق الداخلى، وينشأ عادةً نتيجة عمليات كالإسقاط والتبرير والتماهى مع الآخر الفاحش الثراء حتى لو كان سفيهًا.
فى مصر يمكن رؤية هذا فيمن يعانون من إحساسٍ مُبَطّن بالنقص؛ فيحاولون تعويض ذلك بإظهار تفوق مصطنع على الآخرين، سواء من حيث الطبقة الاجتماعية، أو التعليم، أو حتى المكانة الدينية.
عقدة الاستعلاء هذى قد تكون نتيجة عقدة نقص جماعية، حيث يلجأون إلى خلق صورة ذهنية لأنفسهم باعتبارهم الأفضل أو الأكثر تحضرًا، وعلمًا وفهمًا وتفوقًا، حتى لو لم يكن لذلك أساس واقعى، كما أن بعض هذه السلوكيات يتم تعلمها منذ الطفولة داخل الأسرة أو من خلال النظام التعليمى، حيث يتم تعزيز قيم التفوق الطبقى أو الفكرى، مما يؤدى إلى تكريس حالة من النرجسية الجماعية التى تتغذى على التقليل من شأن الآخرين.
كما يمكن ربط الاستعلاء بمفهوم الهيمنة الفكرية والرمزية الذى ناقشه الفيلسوف الفرنسى بيير بورديو؛ فالاستعلاء هنا ليس مجرد مسألة نفسية، بل هو أداة تستخدمها بعض الفئات الاجتماعية لترسيخ سلطتها من خلال السيطرة على اللغة، والمعرفة، والثقافة؛ فالأفراد الذين يمتلكون رأسمال ثقافى أو اقتصادى أعلى، يستخدمون هذه الأدوات لخلق تراتبية اجتماعية تجعلهم فى موضع «الأفضلية» بشكل دائم.
فى ثقافة الاستعلاء فى مصر يعتبر بعض الأفراد أنفسهم «أفضل» بناءً على انتمائهم إلى طبقة اقتصادية معينة، متجاهلين أن الفوارق الطبقية ليست دائمًا دليلًا على الجدارة الشخصية، بل على التوزيع غير العادل للفرص والثروة؛ فيتم استخدام الشهادات الأكاديمية أو الخلفية الثقافية كأداة للتفريق بين «المتعلمين» و«الجهلاء»، بينما قد يكون لبعض الأفراد دون شهادات رسمية قدرات فكرية متميزة لا يتم الاعتراف بها
داخل الكومباوندات التى ملأت مصر باختلاف مستوياتها، ثمة نمط سلوكى يعكس التقسيم الدفاعى Splitting، وهو آلية نفسية يستخدمها الفرد عندما يجد نفسه ممزقًا بين قيم متعارضة، فيلجأ إلى تقسيم شخصيته إلى جانبين غير متصلين، كل منهما يمارس حياته وفق منظومة قيمية مختلفة؛ فهو «يعرف ربنا» ويقيم الشعائر ويذهب بانتظام إلى المقرأة لكن قلبه ليس صافيًا، ربما لأن هذا يسمح له بالحفاظ على صورة ذاتية متوازنة دون الشعور بالتوتر الداخلى أو الذنب، ويعيش هؤلاء السكان داخل هوية مزدوجة؛ فهم يقدسون التقاليد الدينية من جهة، ويمارسون الحداثة بأقصى صورها من
لا يكمن الحلّ فقط فى تحسين الظروف الاقتصادية، بل فى إعادة بناء ثقافة تحترم الإنسان بغض النظر عن طبقته، وإعادة ترسيخ قيم العدل والكرامة والمساواة فى الوعى الجماعى، بدون ذلك، ستظل حمامات السباحة الرخامية مجرد مرايا تعكس بؤس الدليفرية وعاملات المنازل الذين ينظرون إليها من الخارج، وتحوِّل الترف إلى عامل تفجير بدلًا من أن يكون مجرد أسلوب حياة مختلف.