مقال

ثقافة التبرير.. دفاع نفسي أم مراوغة اجتماعية؟

بواسطة
في
مايو 10, 2025

 

 

«السيستم واقع، عشان كده حصل خطأ»، «على فكرة، الجزمة مش ضيقة، هتوسع مع المشى»، «الدوا اللى طلبته مش موجود، بس فى حاجة تانية أحسن».. عبارات يومية نسمعها فى كل مكان، من الصيدلية، إلى موظف خدمة العملاء. قد تبدو عادية، لكنها تعكس نمطًا ثقافيًا دفاعيًا متأصلًا فى الشخصية المصرية.

هل يمكن أن نسمى هذه الظاهرة جزءًا من الثقافة الشعبية المصرية؟ هل هى حيلة نفسية لا واعية لتجنب الشعور بالذنب أو الإحساس بالتقصير، أم هى وسيلة لإعادة صياغة الواقع بشكل فيه تحايل على الآخر، وتجنّب للصدام أو الشجار؟ الموضوع أكبر من مجرد سلوك فردى، إنه نمط متجذِّر، يتكرر لحظيًا فى مواقف شتى فى حوادث السيارات، ومع شركات التأمين، داخل الأسرة، مع عمال النظافة، وفى بيئة العمل نفسها.

علم النفس الدينامى وصف «التبرير» بأنه حيلة لا واعية، يستخدمها الإنسان ليُجمّل صورته أمام نفسه ويحميها من الانهيار أو من مشاعر الذنب، لأنه، ببساطة، يدرك فى عمقه أن الشعور بالذنب هو الابن الشرعى للاكتئاب، لذلك يلجأ إلى التبرير، ليهرب من مواجهة الذات، فيُلبِس الخطأ ثوبًا مقبولًا، ومنطقيًا، بل وأحيانًا بطوليًا.

ويبقى السؤال الأهم: لماذا يبدو التبرير فى مصر ظاهرة جماعية شبه مُمَنهجَة، تتجاوز الفرد إلى المجتمع.؟

فى مجتمع تراكمت فيه أزمنة الفقر، والقهر، والارتباك القيمى، نشأ وعى يدافع عن «الصورة» أكثر من دفاعه عن «الجوهر». فى ثقافاتٍ كثيرة، ليس عيبًا أن تُخطئ، لكن العيب أن تُخفى الخطأ أو لا تتعلم منه. أما عندنا؛ فالخطأ ليس فى التقصير، بل فى الاعتراف به علنًا. نحن لا نخشى أن نخطئ، بل نخشى أن نُفضَح. وهكذا يصبح التبرير آلية دفاع جماعية، لا غنى عنها للحفاظ على الكرامة الاجتماعية؛ فالعامل الذى يتأخر يوميًا عن عمله يبرر ذلك بزحام الطريق، لا لأنه خرج متأخرًا أو لأنه يتلكأ، والمريض الذى يتأخر باستمرار عن موعد جلسته مع الطبيب، يبرِّر لنفسه كل مرة، والمسؤول الذى يفشل فى إدارة مؤسسة يعلّق ذلك على فساد الآخرين، والطالب الذى يرسب لا يرى تقصيره، بل يحمِّل المسؤولية لوزير التعليم! إنها ثقافة تبرير لا تهدف إلى الكذب بقدر ما تهدف إلى التماسك النفسى والاجتماعى.. ولكن بثمنٍ باهظ.. غياب الاعتراف، وضياع فرص الإصلاح، واستمرار الدوران فى الحلقة ذاتها. إنها الكذبة الأنيقة للذّات؛ فالتبرير من أكثر آليات الدفاع النفسية سحرًا وأناقة؛ فهو لا يُنكر الواقع، ولا يُشوّهه بشكل فجّ، بل يعيد صياغته بطريقة تبدو منطقية، عقلانية، ومقبولة اجتماعيًا. إنه الكذبة الجميلة التى ترويها النفس لصاحبها كى تحمى الأنا من الانهيار، ولكى تتفادى الألم الداخلى الناتج عن الإحساس بالذنب، أو العار، أو الفشل.

فى منظور العالِم Winnicott، يُعتبر التبرير وسيلة لحماية الأنا الزائفة من التهديد، تلك الأنا التى تتكوّن حين يُجبَر الإنسان على التكيف مع بيئة لا تحتمل حقيقته، أما Heinz Kohut فيرى فى التبرير آلية تعويضية يلجأ إليها الشخص لحماية نرجسيته المجروحة من الانكشاف، لكن فى كلتا الحالتين، يظل التبرير «طريقًا التفافيًا» حول الألم، لا وسيلةً لمواجهته أو حلّه.

ربما كان محاولة إبداعية من النفس لاستعادة توازنها، لكن خطره يكمن فى تكراره، واعتياده، وتحوّله إلى نمط ثابت يُبعد الإنسان عن ذاته الحقيقية، وعن إمكانات النمو والتغيير.

ولعل الأهم من ذلك أن التبرير لا يعمل فقط على المستوى الفردى، بل يتحول أحيانًا إلى ظاهرة اجتماعية؛ ففى مجتمعاتٍ مقصومة الظهر، يصبح الدفاع عن «الصورة» أكثر أهمية من مواجهة الحقيقة، عندئذٍ يُنظر إلى الاعتراف بالخطأ كضعف، وإلى تحميل النفس المسؤولية كفضيحة.

خلاصة القول عندنا يتحول «التبرير» إلى جدار نفسى واجتماعى يحمى الكرامة الظاهرة، لكنه يمنع التغيير العميق، أما فى المجتمعات التى تشجّع على المكاشفة؛ فيُعَدّ الخطأ فرصة للتعلّم، ولكن فى بيئات أخرى فالخطأ وصمة، والاعتراف به سلاح يُستخدم ضدك.. هكذا يزدهر التبرير، لا ككذبة فقط، بل كـ«ضرورة اجتماعية»، تُسكِت بها النفس صوت الحقيقة، وتضمن بها استمرار العلاقة بينك وبين نفسك وبينك وبين الآخر. لكن للأسف، مع مرور الوقت تُصبح هذه الآلية عائقًا أكثر منها وسيلة إنقاذ، لأن المبالغة فى استخدامها تعنى الغرق فى وهم مُزمن، وتحوّل الأنا إلى كيانٍ هش لا يتَحمَّل الحقيقة.

 

 

 

 

TAGS
RELATED POSTS

LEAVE A COMMENT

خليل فاضل
القاهرة، مصر

كاتب ومحلل نفسي، قاص وروائي، يعالج بالسيكودراما الحديثة في مصر، له مقال أسبوعي كل يوم جمعة ينشر في صحيفة المصري اليوم، كما تشهد له قنوات اليويتيوب بعديد من اللقاءات السخية نفسية واجتماعية، كما أنه يمارس مهنة الطب النفسي منذ حوالي 41 سنة

بحث
أحدث التعليقات