الطبيب النفسي بين تهمة بيع الكلام وشرف الإصغاء
فى زمنٍ تتسارع فيه المؤشرات الحيوية، وتُقاس الإنجازات بمدى ما يُستأصل أو يُخاط أو يُوقف من نزيف، يعمل الطبيب النفسانى فى منطقة رمادية.. النفس، الملتبسة، وغير المرئية.
إنها ليست تهمة جديدة. «إنتم بتبيعوا كلام»، يقولها البعض وهم يضحكون، وأحيانًا يهمسون بها كأنها فضيحة. الجراحون يُنقذون الأرواح، أطباء القلب يُزيلون انسدادات، أما «النفسانى» فماذا يفعل؟ يَسمع. يتكلم. أحيانًا يكتب روشتة. فما الملموس فى ذلك؟ وما الذى يُقاس؟ تلك التهمة السطحية تخفى تحتها ديناميات أعمق بكثير، سيكوديناميات جماعية، تُعبّر عن مقاومة لاشعورية تجاه النفس ذاتها، تجاه المرآة التى يحملها الطبيب النفسانى فى وجه العالم.
إذن فلنفكك المشهد.. زميل الجراحة الذى يزدريك فى نكتة، أو يتهكم على عملك كـ«بياع كلام»، قد لا يدرك أنه ربما يُسقط لا شعوريًا دفاعه الخاص ضد هشاشته الداخلية. إنه كأى إنسان لديه منطقة مظلمة يخشاها، ولا يريد أن يراها. وهو، حين يرى زميلًا يشتغل فى هذا الحقل الخطر، حقل اللاوعى، والرغبات، والطفولة، والصدمات، قد يشعر بعدم ارتياح؛ فيتحول الدفاع إلى تهكم، أو إلى إنكار.. «كل ده كلام فارغ».
وكذلك العامة.. تُرى لماذا يرفض الناس فى مجتمعاتنا الاعتراف بألمهم النفسى؟ لماذا يُفضِّل الواحد منهم أن يزور عشرات أطباء الباطنة أو الأعصاب قبل أن يعترف بأن المسألة «نفسية»؟ هل لأن الاعتراف بالحاجة إلى طبيب نفسانى يعنى الاعتراف بالضعف، بالهشاشة، أو بالجنون المُفترض، فى ثقافةٍ لا تزال ترى القوة فى الكتمان، والرجولة فى الصبر، والأنوثة فى الصمت. إنها مقاومة جماعية ضد التفتيش فى الأعماق، لأن النفس تُخيف.
حتى الطبيب النفسانى نفسه ليس بمنأى عن هذا التيه؛ ففى لحظات الصمت بعد الجلسات، يتأمل مصير حالة مزمنة لم تتحسّن بعد شهور، وقد يراوده هذا السؤال المرعب.. «هل ما أفعله حقيقى؟ هل أساعد فعلًا؟ أم أُخدّر؟ هل أُعيد إنتاج الأعراض فى شكل كلام فقط؟» هذه ليست مجرد أسئلة ذهنية، بل صدى لتوتر سيكودينامى داخلى بين «الذات المهنية المثالية» و«الذات المهدَّدَة باللاجدوى». الطبيب النفسانى الذى ينكر هذا السؤال يومًا ما، لم يغُص فى المهنة بعد.
النفسانى يُعيد تشكيل رواية الإنسان عن نفسه. يُصغى، إصغاءً ليس محايدًا بل مُنتقى، مدعومٌ بمعرفة لاواعية، ومشبّع بتاريخ تحليلى، وبتعقيدٍ بشرى.
نخن لا نبيع كلامًا، بل ننسج علاقة، وقد تكون تلك العلاقة هى أول نموذج آمن فى حياة مريض لم يعرف فن وعبق المواجدة «Empathy» أى القدرة على الإحساس بالآخر فعلًا، والتى تتم بشكل سلس وتلقائى.
العلاج السيكودينامى يرى أن الأعراض ليست مجرد خلل كيميائى، بل رسالة مشفّرة من النفس.
والعلاج فك الشفرة. ولهذا؛ فإن الطبيب النفسانى لا يبيع، بل «يترجم» الكوابيس إلى رموز. والسكوت إلى حكاية.
الروشتة التى نكتبها أحيانًا، ليست هى العلاج بل جزء منه. وحين نلجأ إلى المهدئات، فإن السؤال ليس «هل دوّخت المريض؟» بل «هل فتحت له نافذة للوعى؟»؛ فالعلاج النفسانى الحقيقى لا يُخدّر، بل يُوقظ. ولا يُغلق الألم بل يعطيه لغة.
هنا يجب أن نتوقف عند نقطة جوهرية يُساء فهمها كثيرًا، حتى من بعض العاملين فى الحقل الطبى.. «الصمت فى العلاج النفسى». لا يعنى فراغًا، ولا تباطؤًا، ولا «ضياعًا للوقت» كما يتوهم البعض. بل هو هنيهةً بين الكلام، فسحةً للصدى، فرصةً لأن يرتدّ المعنى من الأعماق. فى هذا الصمت تتكشّف طبقات اللاوعى، وتنبت معانى لم تُقَل بعد. وكذلك ما يُسمّى فى الأوساط السطحية بـ«الكلام الفارغ».
فى الجلسة النفسية، لا يوجد كلام فارغ. وحتى أكثر الجُمل تكرارًا، والحكايات المشوشة أو المكرَّرة، تحمل فى طيّاتها قصدًا، وتاريخًا، ورسالة. إن الكلام «الذى يبدو فارغًا» له محتوى، ودلالة، وله بُعد متصِّل بتاريخ المُتَعَالِج منذ طفولته، وحتى لحظة جلوسه أمام الطبيب. قد يكون دفاعًا، أو استرضاءً، أو استعادة غير واعية لصوت الأب أو الأم. إنها ليست كلمات تُقال اعتباطًا، بل صدى لصراع داخلى، لبنية نفسية، لحكاية مكبوتة تُعاد أمام مرآة المعالج.
إن التحليل لا يحتقر الكلام، بل يصغى لما وراءه. والمعالج النفسانى لا يبحث عن «المفيد المباشر»، بل عن ذلك الخيط الخفى الذى يربط «اللامعنى الظاهرى» بالأعمق.
وفى عالم يعجّ بالكلام، نحن لا نبيع الكلام، بل نعيد له معناه.