مُسنّ يبحث عن مقبرة في محافظة القاهرة
كمُسِن على مشارف الثمانينيات، دخلت مبنى محافظة القاهرة لا بطلب امتياز، بل لدفع قسطٍ لمقبرة خُصصت لى لأواجه بها موتًا قادمًا لا محالة. توقعت، ربما بسذاجة، أن الأمر سيكون بسيطًا، مُنظمًا، إنسانيًا على الأقل. لكننى، وجدت نفسى داخل متاهة، أو بالأحرى «غابة بيروقراطية»، لا تعرف فيها من أين تبدأ ولا أين تنتهى، كان المشهد صادمًا لا بسبب تعقيد الإجراءات فحسب، لكن بسبب انعدام الحياة خلف مكاتب أغلبها فارغة، لا أحد فى مكانه. لا أحد يعرف. لا أحد يريد أن يعرف. كل سؤال يُقابل بإحالة إلى «الطرف الآخر»، و«الآخر» هذا ليس إلا شبحًا يشير بدوره إلى «آخر آخر»، حتى تنتهى الدائرة بك إلى الله تعالى، حرفيًا. والموظف المعنى الذى بيده الملف، والإحالة فى الدور الثالث من محافظة القاهرة الذى هو بمثابة تسعة أدوار والله. إنها ليست مجرد شكوى شخصية. إنها صورة مكثفة لانهيار ثقافة العمل، لانهيار معنى «الخدمة العامة» وتحولها إلى مسرح عبثى تسكنه كائنات فقدت القدرة على الحياء، والتفكير، واحترام الوقت والإنسان معًا. لم أكن فى منطقة عشوائية، كنت فى قلب محافظة القاهرة، عاصمة البلاد. ومع ذلك شعرت كأننى على هامش الوجود، مجرد رقم فى دفترٍ مهمل.
ما الذى يجعل الموظف الحكومى فى مصر، بهذه القسوة والتبلد؟ إنها ليست قلة الدخل، بل العقلية المُتكلّسّة، التى تُنتجها مؤسسات فاشلة تُدرّب الإنسان على ألّا يكون إنسانًا، بل حاجزًا، جدارًا، نمط نفسى جماعى تتراكم فيه مشاعر العجز، التراخى، والنكوص.