«شِدّ العِمّة شِدّ.. تحت العِمّة قرد».. فوضى الشارع المصري
فى مصر، يكفى أن تخرج من بيتك صباحًا، لتهمس لنفسك: «شِدّ العِمّة شِدّ، تحت العِمّة قرد»، عبارة تُلخص ببراعة ما نراه كل يوم، واجهة أنيقة، مظهر وقور، تحتها مباشرة يكمن واقع صاخب، مضحك مبكٍ فى آنٍ واحد.
الشارع المصرى هو المسرح الأكبر لهذه المفارقة، حيث تتقاطع الفوضى مع العبقرية الشعبية، ويصير المشهد اليومى درسًا حيًّا فى علم الاجتماع، والنفس، والسياسة.
عندما تسير فى شوارع القاهرة أو الإسكندرية أو أى مدينة مصرية كبرى، تلفت نظرك كبائن رجال المرور، لافتات «ممنوع الانتظار»، وحملات إعلامية تشِدّد على الانضباط.
وبمجرد أن تغوص قليلًا فى تفاصيل المشهد، حتى ترى «القرد» يطل من تحت «العِمّة».. ميكروباص يقف فجأة فى منتصف الشارع ليُنزِل راكبًا، تاكسى يفتح بابه فى وجهك وأنت تسير، دراجة بخارية تسير عكس الاتجاه، وبائعٌ يفرش بضاعته أمام باب المترو، هذا التناقض بين الشكل الرسمى والواقع الفعلى، هو ما يجعل الشارع المصرى، متاهة من الفوضى المنظمة، حيث يبدو كل شىء فى حالة انسياب عشوائى، ومع ذلك يصل الناس فى النهاية إلى أعمالهم وبيوتهم، ولو بعد عناء.
الميكروباص سيد الشارع بلا منازع، يقف حيث يشاء، يتحرك فجأة بلا إشارة، وصوت المُنادى يعلو فوق ضجيج السيارات ليعلن الوجهة، وإلى جواره موتوسيكل، الذى تحول من وسيلة انتقال سريعة إلى «كائن» طليق، يخترق كل القواعد، يصعد على الرصيف، يدخل الأزقة، ويجعل المارة يقفزون جانبًا كى ينجوا.
أما المشاة، فقصتهم مع الفوضى أشَدّ قسوة.. أرصفة مكسورة، إشغالات تملأ الطريق، إضاءات معطلة، ومطبات «صناعية» غير مرئية، إذن فعينٌ على السيارات، وعين على الأرض، وأذن تلتقط أى كلاكس غاضب يوشك أن يدهسك.
هذا انعكاس لثقافة اجتماعية متجذرة؛ فالمصريون تربوا على أن الفرصة تُنتزع لا تُمنح، وأن من ينتظر دوره قد يخسر كل شيء، لذلك يتحول المرور إلى سباق، والطابور إلى معركة، والشارع إلى حلبة صراع يومى.
إن الناس لا يثقون فى أن القانون سينصفهم. لذلك، يفضّلون أن «يدبروا نفسهم» بطرق فردية، حتى لو أدّى ذلك إلى مزيدٍ من الفوضى.
إن الشارع المصرى ابن شرعى للعشوائية العمرانية، التى تراكمت لعقود. مدنٌ توسعت بلا تخطيط، أحياءٌ مكتظة بالبناء المخالف، وطرق ضيقة لم تُصمَّم أصلاً لاستيعاب ملايين السيارات. مع ضعف الخدمات العامة، صار الشارع مكانًا لكل شيء.. سوق، موقف سيارات، ورشة مفتوحة، وحتى مقلب قمامة.
تعاملت الحكومة طويلًا مع الشارع باعتباره «ساحة أمنية»، لا «فضاء مدنيًا». المهم هو السيطرة الأمنية، لا التنظيم الحضرى أو الراحة الإنسانية. لذلك تجد عشرات الكمائن الأمنية، لكنك لا تجد ممرًا واضحًا لذوى الاحتياجات الخاصة. هذه الرؤية الأمنية جعلت الشارع يعيش حالة «نصف نظام»، مظهر خارجى منضبط، وباطن متروك للفوضى.
أن تعيش وسط هذه الفوضى يعنى أن تكون فى حالة استنفار دائم؛ فالمشاة يقفزون من بين السيارات، والسائقون يصرخون فى بعضهم البعض، أبواق السيارات لا تهدأ. هذا الضغط المستمر ينعكس على المزاج العام، فيجعل الغضب والانفعال جزءًا من السلوك اليومى.
إن الشارع ليس مجرد مكان عبور، بل مساحة تتشكل فيها علاقة المواطن بمؤسسات الحكومة. حين يرى المواطن الفوضى تسيطر على الشارع، يشعر أن الحكومة غائبة، ورغم قسوة المشهد، إلا أن المصريين طوروا قدرةً خارقة على التكيف؛ فالمواطن البسيط يملك مهارة عبور الشارع وسط زحام لا يرحم، يعرف بالضبط متى يندفع، ومتى يتراجع، ومتى يرفع يده كإشارة غير رسمية للسائق ليتوقف، لكنه فى أحيانٍ كثيرة فى الشوارع التى اتسّعت، يلقى حتفه.
تلك القدرة على التكيف، رغم إيجابيتها، تحمل وجهًا سلبيًا، لأنها تكرّس قبول الفوضى، وتجعلها تبدو أمرًا طبيعيًا لا يستحق المقاومة.
إن الحل ليس سهلًا، لكنه يبدأ من إعادة تعريف الشارع باعتباره حقًا مدنيًا لا مجرد فضاء عابر. يجب أن يُنظر إليه كمجال للحياة، للعدل، للكرامة، وليس كساحة حرب يومية، ومن ثمَّ يجب إعادة النظر فى البنية التحتية لتكون إنسانية. لكن الأمل دائمًا موجود؛ فكما أن المصريين أبدعوا فى تحويل الفوضى إلى مادة للضحك والبقاء، يمكنهم أيضًا أن يحولوا الشارع إلى فضاء للحياة الكريمة. عندها فقط، ستصبح العِمّة عِمّة فعلًا، بلا قرد يختبئ تحتها.