رسالة القهر والجُرح الفلسطينى وارتجاج الوعى العالمى

حربٌ لم تكشف عن وحشية الإبادة فحسب، بل عن العجز الكونى أمام الجوع، الخوف، والدمار.

ولأن ما جرى تجاوز حدود السياسة، يصبح التحليل السيكودينامى أداةً ضرورية لفهم أعمق لما يحدث داخل النفس.. داخل الضحية، والجانى، والمُشاهد البعيد الذى يتظاهر ويصرخ.

فى غزة، تحوّلت الأرض إلى ذاكرة مشتعلة، فالمدن التى كانت تضجّ بالحياة صارت ركامًا، البيوت بلا سقف، المستشفيات بلا دواء، الأمهات بلا أطفال، والأطفال بلا طفولة. صار المكان الحاضن للناس يلفظهم، والسماء التى كانت تُمطر صارت تقصف. أنتج كل ذلك حالة من الصدمة النفسية المركّبة، حيث تتشابك مشاعر الخوف واليأس والعجز، ويتحوّل الزمن إلى دائرة مغلقة لا فجر بعدها.

هذه الصدمة ليست فردية، إنما جماعية. يشترك فيها مئات الآلاف ممن فقدوا البيت والأمن والهوية، وفى التحليل النفسى الجمعى، حين يفقد الإنسان المكان، يفقد جزءًا من ذاته، لأن الجغرافيا ليست أرضًا فقط، بل ذاكرة وامتداد للهوية.

الجوع فى غزة لم يكن قطّ بيولوجيًا، إنه رسالة قهرٍ يُراد بها إذلال الإنسان وتحطيم إرادته، فهو يولّد الحرمان المتعمَّد إحساسًا عميقًا بعدم الاستحقاق، فيتحوّل إلى غضب مكتوم، ثم إلى عنفٍ داخلى أو انفجار خارجى، وحين يُمنع الناس من الخبز والماء والدواء، يُنتزع منهم الإحساس بالكرامة، فيبدأون رحلة مقاومةٍ داخلية، تتراوح بين البكاء والصمت، بين الدعاء والغضب، بين الانتظار والرفض، والجوع أيضًا يخلق تضامنًا داخليًا، فالأسر التى تتقاسم اللقمة تولّد شعورًا جمعيًا بالنجاة المشتركة، وكأن الجوع نفسه يصبح خيطًا خفيًا، يوحّد الجرحى فى مواجهة محاولات الإبادة النفسية.

الليل فى غزة ليس استراحة، بل مسرح خوفٍ لا ينتهى، فالنوم يتقطّع بالصواريخ، الأحلام تتكَسَّر بصوت الانفجار، والطفل الذى ينجو اليوم لا يعرف إن كان سيصحو غدًا.

هذه الحالة من الرعب المزمن تُعرف نفسيًا بـ«التحفّز المستمر، حيث يعيش الجسد فى حالة طوارئ دائمة، ويصبح كل صوت تهديدًا، وكل ضوء احتمالًا للموت، وهكذا تُصاب النفس بـ«الاحتراق الوجودى»، ويصبح البقاء نفسه معركة لا تنتهى.

لم تعد الصدمة حكرًا على الغزيّين وحدهم، فالعالم كله يشاهد، والعين التى ترى لا يمكنها أن تبقى بريئة، فالفيديوهات، الصور، صرخات الأطفال، وجثث العائلات، تسافر عبر الشاشات إلى ملايين البيوت،

ويُصاب كثيرون بما يُعرف بصدمة التعاطف Vicarious Trauma.. حيث يتماهى المتابع مع الضحية، ويشعر بالعجز، والذنب، والغضب فى آنٍ واحد. ومن هنا، تولّدت حركة احتجاجات عالمية غير مسبوقة.

شوارع لندن، باريس، مدريد، نيويورك، وروما وسيدنى وغيرها، امتلأت بشعارات Free Palestine، بمسيرات لا تهدأ، بصدامات مع الشرطة، وبدموعٍ تحمل معنى أعمق من السياسة، دموع العدالة المغتصَبَة.

إن المظاهرات فى علم النفس السياسى ليست فقط أفعالًا احتجاجية، بل هى طقوس شفاء رمزى، فحين يخرج الآلاف ليصرخوا ضد الإحساس بالعجز الكونى، إنها محاولة لاستعادة السيطرة، لاسترداد الإنسانية المسلوبة. فى اللاوعى الجمعى، يتحوّل الهتاف إلى دواء، واللافتة إلى مرآةٍ للضمير، والدمعة إلى توقيعٍ على عقد جديد مع العدالة. لكن المظاهرات التى تُقمع بالهراوات والغاز والاعتقالات تُعيد تمثيل الصدمة ذاتها.. القامع والمقموع، السلطة والضحية، تُستعاد رمزيًا فى كل شارع وكل ميدان، كأن العالم يعيد تمثيل الصراع الفلسطينى فى مدنه.

خلال هذا العام، أعلنت دول كبرى مثل بريطانيا، كندا، وأستراليا، اعترافها الرسمى بالدولة الفلسطينية. قد يبدو الاعتراف رمزيًا، لكنه فى التحليل السيكودينامى يحمل أثرًا نفسيًا عميقًا.. إنه اعترافٌ بـ«الوجود»، ضد محاولات المَحْو.

فى علم النفس، يُعَدّ الاعتراف الخطوة الأولى نحو الشفاء، فأن تُرى، أن تُعترف بآلامك، يعنى أنك لم تعد شبحًا. فى المقابل، يثير هذا الاعتراف صدمة معكوسة لدى القوى الرافضة.. من اعتاد إنكار الآخر يُصدم حين يرى العالم يلتفت إليه، فتتولد آليات دفاعية.. اتهام، إسقاط، نفى، وتبرير. لكن المسار النفسى للتاريخ لا يعود إلى الوراء، فالاعتراف المتسع يغيّر اللاوعى السياسى العالمى، ويعيد رسم حدود الذاكرة الجمعية.

إنها ليست حرب الفلسطينيين فقط، بل حرب الإنسان ضد نسيانه.