«المسألة مش كيميا دماغ بَسْ».. إنها البيئة المحيطة

قلت إن المزاج مجرّد تفاعل كيميائى فى الدماغ، والسعادة أو الغضب أو الطمأنينة ليست سوى حالات السيروتونين والدوبامين والكورتيزول، هذا صحيح جزئيًا. لكن هذه الكيمياء مرآةً تعكس بيئتنا، لا مجرد حالة داخلية؟ فماذا لو كانت البيئة التى نحيا فيها، المكان، الضوء، العلاقات، الإيقاع اليومى، هى التى تُملى على أدمغتنا ما تُفرزه من مواد، وما تكبته من انفعالات؟

هكذا يتسع المشهد؛ فلا يعود الإنسان دماغًا منعزلاً فى جمجمة، بل كائنًا بيولوجيًا-نفسيًا يعيش فى شبكة من المؤثرات البيئية التى تتفاعل مع جهازه العصبى بدقة تفوق الوصف؛ فهناك البيئة الداخلية.. كيمياء جسده ودماغه، والهرمونات والناقلات العصبية، والبيئة الخارجية، والعالم الذى يعيش فيه.. الهواء، الضوء، الطعام، الضوضاء، العلاقات، المدينة.

هاتان البيئتان فى حوارٍ دائم؛ فحين يختلّ إيقاع نومك بسبب ضوضاء المدينة أو إضاءة الشاشات، ينخفض إفراز الميلاتونين ويعلو الكورتيزول، وحين تمشى فى الصباح فى حديقة، يرتفع السيروتونين والدوبامين، وحين تضحك مع صديق تثق به، يفيض الأوكسيتوسين الذى يربطك بالآخرين ويُخفض التوتر. إذن فنحن لا نملك «كيمياءً» منعزلة، بل كيمياء بيئية تتشكّل لحظةً بلحظة.

إن الدماغ الحَضَرى الحديث يعيش فى حالة «تأهّب» مستمر؛ فالضوضاء، الزحام، الشاشات، السرعة، الضغط المهنى، كلها تُبقى الجهاز العصبى السمبثاوى فى وضع تشغيلٍ دائم؛ فيرتفع الكورتيزول، هرمون القلق، وتُصاب المنظومة العصبية بخلل مزمن فى التوازن.

إن المدينة ليست مجرد خلفية حياتية، بل عامل بيولوجى نشط يبدّل الكيمياء العصبية نفسها؛ فمن يعيش فى أسوان غير الذى يعيش فى القاهرة، بكل تناقضاتها وتلوثها البيئى والسمعى والبصرى.

أما العلاقات الإنسانية؛ فهى بيئة أخرى لا تقل تأثيرًا عن الضوء والهواء؛ فالحرمان من اللمس، ومن الحضور الإنسانى، ومن التقدير، يُحدث فى الدماغ آثارًا كيميائية مشابهة للجوع والعطش، وعندما نعانق شخصًا نحبه، يفرز الدماغ الأوكسيتوسين؛ فيشعر الجسد بالأمان. وعندما نُهان أو نتعرّض للإهمال، يرتفع الكورتيزول وينخفض السيروتونين؛ فنشعر بالاكتئاب أو بالبرود العاطفى.

فى علم النفس الاجتماعى يُقال إنّ «العزلة تقتل مثل التدخين». ليس مجازًا.. فلقد أظهرت الدراسات أن الوحدة الطويلة تُضعف جهاز المناعة عبر ارتفاع الكورتيزول المزمن.

الطفل يتعلم العالم عبر بيئته الأولى.. الأم، البيت، اللهجة، اللمسة، الضوء، وفى السنوات الأولى تُبرمج منظومات السيروتونين والدوبامين والأوكسيتوسين بحسب ما يتلقاه من حب أو خوف أو إهمال، والطفل الذى يُترك فى بكائه بلا استجابة يطوّر دماغًا متحفّزًا دائم القلق، بينما الذى يُحتضَن ويتلقى طمأنينة يكوّن دائرة عصبية هادئة، تقاوم القلق والاكتئاب لاحقًا.

إنّ الحرمان العاطفى فى الطفولة ليس حدثًا نفسيًا عابرًا، بل بصمة كيميائية طويلة الأمد فى الدماغ. هذا ما يفسّر لماذا يُصاب بعض الناس بالهلع أو الاضطراب الوجدانى، رغم أنهم يعيشون حياة مادية مستقرة، لأن البيئة المبكرة لا تزال تهمس فى كيميائهم. وحتى أبسط عناصر البيئة المادية تدخل فى هذا الحوار الكيميائى-النفسى؛ فالغذاء الذى نتناوله ليس مجرد طاقة حرارية، بل مواد أولية لصناعة الناقلات العصبية.. التريبتوفان مثلًا أساس السيروتونين، والأحماض الدهنية أوميغا-٣ ضرورية لنقل الإشارات العصبية، لذلك تؤدى الأنظمة الغذائية الفقيرة إلى اضطرابات مزاجية لا تنفع فيها الأدوية وحدها، والضوء الطبيعى بدوره منظّم أساسى لإيقاع الساعة البيولوجية. قلة التعرض للشمس تُضعف إنتاج فيتامين D وتؤثر فى السيروتونين والميلاتونين، فينخفض المزاج ويضطرب النوم. أمّا تلوّث الهواء؛ فله أثر واضح على الالتهابات العصبية، وهو ما ربطته دراسات حديثة بزيادة معدلات الاكتئاب والانتحار فى المدن الملوّثة.

هكذا تصبح البيئة المادية، بتفاصيلها اليومية، مساهمًا خفيًا فى صناعة المزاج البشرى، والجميل أنّ التوازن الكيميائى يمكن أن يُستعاد عبر تغييرات بيئية بسيطة عميقة الأثر.. النوم المنتظم فى ظلام كامل يعيد إنتاج الميلاتونين ويخفض الكورتيزول. المشى اليومى، خاصة فى ضوء الصباح، يرفع السيروتونين ويقلّل التوتر.

والتنفس الواعى يهدّئ الجهاز العصبى السمبثاوى وينشّط العصب الحائر، المسؤول عن الاسترخاء، والتواصل الإنسانى الحقيقى، وجهاً لوجه، يعيد تنشيط الأوكسيتوسين ويقوّى المناعة، والضحك والفن والموسيقى تفعّل الدوبامين وتعيد المرونة العصبية للدماغ. أى أنّ ما نسمّيه «نمط حياة» هو فى جوهره علاج كيميائي-بيئى طبيعى، لا دواء يُبلع بل أسلوب يُعاش.