العلاج النفسى بين الوعى والوصمة
أصبح الرأى العام منشغلًا بأمور الصحة النفسية، كما تداولتها وسائل التواصل الاجتماعى والإعلام والناس على مقاهيهم؛ فاضطراب كالاكتئاب أو الــ STRESS أصبح مُهمًا، لأنه يُعطِّل الإنتاج ويعوق الحياة السهلة، بل أصبح يؤثر على صحة رأس المال البشرى.. وهنا تصبح الصحة النفسية قضية أمن قومى.
يشبه الاكتئاب اختبار «رورشاخ»، ذلك الاختبار النفسى الذي تسجل فيه تصورات الأشخاص عن بُقعٍ من الحبر، تُحَلَّل بتفسيرها نفسيًّا؛ فيفسِّرونه حسب أمزجتهم، فهو أحيانًا قلة إيمان أو مجرد مزاج سيئ، وهذا أمرٌ خطير، لأن أمراضًا كالسكر والقلب لا ينكرها المريض وذووه، مع أن المسألة مُتضافرة مع بعضها البعض؛ فالجسم والعقل وحدةٌ واحدة، والكُلّ يعنى الكُلّ وليس مجموع الأجزاء، فإذا كان الإنسان معافى من الأمراض البدنية بينما ذهب عقله؛ فإنه في خطرٍ عظيم.
كثرٌ من يجدون أحد أفراد العائلة مُشخَّصًا بـ «الذهان»، وهو مرادف علمى لغياب العقل وعدم الإحساس بالواقع وإدراك الحقيقة، مع اضطراب التفكير والإدراك والوعى، لذا فإن أي تشخيص للطبيب النفسى له «مُكوِّن ذهانى» يُرفض ويُقاوَم من المرضى وذويهم.. أما اضطراب الشخصية؛ فهو موضوع حسَّاس لأن الشخصية هي كُنه الإنسان وكينونته.. لكن للأسف إن كثيرين لا يعلمون أن لاضطرابات الشخصية حلولا وعلاجات تتراوح ما بين الدواء والجَدَلى والسلوكى والمَعرفى، وتتداخل في فهمها علومٌ شتى كالفلسفة والواقع اليومى والبُعد الاجتماعى والتربية وصدمات الطفولة والتحرش في الصِغَر، وفقد أحد الوالدين أو كليهما، ممَّا يتسبَّب في تعقُّد الأمور، ليُصبح اليأس سببًا قويًا لرفض العلاج وتفضيل أن يظلّ المريض مريضًا، أو أن تُحيل الزمرة العائلية المرض إلى تفسيرات السحر والأعمال؛ فيلجأون إلى الدجالين والمشعوذين والمُدّعين.
كان سؤال مفتوح تمَّت مناقشته على صفحة العيادة النفسية: «هل المجتمع أصبح متقبلًا فكرة طلب العلاج النفسى؟ وهل لعبت التوعية النفسية دورًا تنويريًا في هذا الأمر؟».
جاء تعليق د. أسماء شهاب: «مع الأسف.. ما زال الشرق الأوسط رافضًا للعلاج النفسى، ومنكرًا لوجوده، ومُعوِّقًا لتعافى حالات كثيرة، أما التوعية النفسية فنتائجها متفاوتة، وتتوقف على الطرف المستقبِل لها؛ حيث يتجاوب بشدة كل من تلمس تلك التوعية مكنونًا نفسيًا يكتمُه، ويستقبلها آخرون بحساسيةٍ مُفرطة، لترددهم الدائم في الاعتراف بحاجتهم إلى المساعدة والعلاج، وتتعرَّض هذه التوعية للهجوم من قبل الجُهلاء والمُنكرين والرافضين»، أما سلَّام فعقب قائلًا: «سوف يزداد طلب العلاج النفسى حال توافر الحرية للمجتمع، والحرية لا تأتى دون وعى، لأنها لا تتفق مع الجهل، وإذا مُنحت الحرية للجاهل؛ فكأنك وضعت سلاحًا بيده؛ فالتحليل النفسى الذي يعتبر ثمرة تجارب جهود طويلة عريضة جاء بعد أن تم تحييد معوِّقات العلم».
ومع تزايد الذين يعانون من تدهور صحتهم النفسية، أصبحت المجتمعات الحديثة مُجهزة بشكل أفضل للاستجابة لاحتياجات الناس، ومع ذلك، فإن وصمة العار حول المرض النفسى وطلب العلاج لا تزال قائمة.
لكن لماذا تُطارِد وصمةُ العار العلاج النفسى تحديدًا؟.. لأن المعتقدات الشخصية والاجتماعية والعائلية تلعب دورًا كبيرًا، وعدم قدرة المريض على الاستبصار لإعاقته بطبيعة مرضه نفسها. كما يمكن أن يؤدى نقص الوعى والتعليم والإدراك والخوف من المصابين بمرضٍ عقلى إلى زيادة وصمة العار، وفى هذا المضمار لا يُمكننى أن أنسى مريضة الوسواس تلك التي أتت من شلاتين مبعدة ألف كيلومتر من القاهرة، يحمل زوجها عنها وليدهما، لتسرد بوعى هائل حكاية إصابتها بالوسواس القهرى، ومدى تأثيره على إحساسها بالحياة وقدرتها على رعاية طفلها، كانت بصيرتها وإصرارها على العلاج والشفاء مستمدَّين من وسائل التواصل الاجتماعى المليئة بالغثّ والثمين، لكنها اختارت العلم والعلاج.