حيل النفس ودفاعاتها
إن حيل النفس ودفاعاتها تتولّد من معاناة الإنسان واشتباكه الدائم مع الحياة، لكى تحميه وتساعده على الصلابة والمرونة داخل مِعمَار النفس المُحيِّر والعنيف والدافئ والحنون، إنها أحاسيسنا المُعقدة بالنفس والهوية، ومِن ثَم فإن الشخصية تنبعُ من تلك الحركة المُتبادلة بين النفس ومكوناتها، فى فرحتِها وحزنها.
كانت جدتى تقول إن الحُمَّى ردُّ فعلٍ صحِّى، جرس إنذار، لا علامةَ مرض؛ فلكى يتعايش الإنسان مع الواقع اليومى المُرّ والقاسى؛ فلا بد له من تطوير دفاعاته النفسية المُستحكمة ضد كل ما يمكن أن يهدِّد بقاءه وتماسكه العضوى والعقلى؛ فجهاز المناعة وعمليات الكرّ والفرّ داخل الجسم ومسارات الجهاز العصبى، وكل هذه الأمور تتم تلقائيًا بنعومة وذكاء وفطنة، وتُساهم فى حماية الإنسان ككل.
من أشهر تلك الحِيَل «الإنكار والإزاحة والانسحاب».. الثلاثة الأهم فى طيف الدفاعات اللاواعية، وهى حِيَلٌ ظرفية مُساعدة؛ بعضها مزمن يُجيد اللعب مع صاحبها من ناحية، ومع الضغوط من ناحيةٍ أخرى؛ أى أن الحياة بدفاعاتٍ نفسية يزيد السلوكيات التكيفية، متجنبًا الصدام والمواجهة مع الشدائد التى لا تُحتمل أحيانًا.
«الإنكار Denial» أمرٌ شائع وتلقائى ومُستحب، ولا أحد مُحصَّن ضد استخدامه، أسهل ردود الفعل لمُصيبة، أن تضَع يديك على رأسِك، وتجحظُ عيناك وتصرخ «مِش معقول؟ لأ.. فيه غلط، مش ممكن، مستحيل»، هذا هو طعم الإنكار الذى نمضغه يوميًا ككسرة خبز.
القاتل عمدًا ومع سبق الإصرار فى قضية هزَّت الرأى العام يقول جهارًا: «لا تتسرَّعوا، إن هناك لبسًا ما، يبدو أن القاتل أحدًا غيرى يُشبهنى».. وللإنكار وجوهٌ كثيرة.. ففى جنازة عزيز عليه يستخف الرجل بمهابة العزاء، ويستخف بالمُعزِّين، بل قد يمزح ويضحك لا مباليًا وكأنه يرغب فى تقويض الحقيقة، ويتمرَّد عليها، لأنه لا يتمكَّن من تحمُّلها أو التعامل معها، وهو فى جوهره مُحبط ويائس، ينعى نفسه لأنه تُرِك وحيدًا أمام كل المسؤوليات.
أما الإزاحةDisplacement؛ فمثالها طفلٌ على أعتاب البلوغ، أبوه غائبٌ منذ ولادته، يجمع المال من بلاد الواق واق، صار متمردًا يُزيح غضبه من والده إلى مُدرسِّيه الذكور، فى رد فعلٍ متسلسِل ضد سلطة المنزل الغائبة التى أحالها عقله الباطن إلى سلطة المدرسة، مما يولِّد الغضب والرغبة فى الانتقام، ولأن دور المدرس أبوىّ وتربوىّ بوصاية، تتكون إشكالية أن تغيم الحقيقة لدى الطالب فلا يرى فى المدرس أحدًا إلا أباه.
فى إحدى الحالات النادرة التى عالجتها، طفلٌ يسعلُ بشدّة فى شكل نباح كلب، وبالتحليل النفسى المعرفى، عرفنا أن أباه قبطانٌ وراء البحار، فصارت الكُحَّة العالية والمستمرة إعلانٌ بالاعتراض على غياب الأب، وفى نفس الوقت مناداةٌ له لكى يعود الآن.. وبعد تصحيح المفاهيم النفسية المغلوطة لدى الطفل بالعلاج المعرفى التحليلى Cognitive Analytic Therapy، ارتاح واختفى سعاله المُشابه للنباح تدريجيًا، وبعدئذٍ اتخذَ الأب قراره بالعودة.
أما ميكانزيم «الانسحاب Withdrawal »؛ فالطفل الذى انفصل والداه بالطلاق ينسحبُ إلى لُعبته المُشوِّقة Play Station، ويغرقُ فيها، وبالتالى لم تعد هناك مُشاحنات أو سلوك عنيد، بل صمتٌ سلبى وسكونٌ قاسٍ ومؤلم، وإغراقٌ فى عالم افتراضى يؤدى إلى مزيدٍ من العدوانية السلبية، بالصمت والامتناع عن أداء الواجبات المدرسية وأى مهامٍ أخرى كالنوم فى موعده، أو تناول الطعام، أو الذهاب إلى المدرسة.
«اضحك عشان الصورة تطلع حلوة»، قد تبتسم الحبيبة للمصوِّر ابتسامةً زائفة، إنها تضحَك على نفسِها وعلى حبيبِها وعلى المُصوّر، لأجل أن تكون الصورة «حلوة»، بينما القلب حزين وغير مطمئن.
الحيل الدفاعية تحمينا أحيانًا، لكن الإفراط فى استخدامها قد يؤدى إلى اضطرابات نفسية لأنها سلاحٌ ذو حَدّين.