صراع المثقف والهمجي في فيلم «الاختيار»
الـ«هُوَ» ID، الـ«أنا» Ego والـ«أنا العليا» Super-Ego.. أقسامٌ ثلاثة عرّفها فرويد من حيث نشاط وتفاعل الحياة العقلية، «الهُوَ» يعمل وفق مبدأ اللذة وتجنب الألم، ولا يراعى المنطق والأخلاق والواقع.. وينشأ عنه «الأنا»، الشخصية فى أكثر حالاتها توازنًا.. و«الأنا الأعلى»، الشخصية فى صورتها الأكثر تحفظًا وعقلانية.
.. وهكذا، فإن الإنسان فى سلوكه وحياته وشخصيته وتعاملاته وآلامه وانفعالاته، وأيضًا فى قوقعته وصومعته الفكرية، فى مزاجه وفكره وإنسانيته، وفى داخله الهُوَ المُتمرِّد، نفسُه المتناقضة مع الأنا التى يظهر بها أمام الناس، تلك الاجتماعية وكزوج وكمثقف له شأن كبير، وفى داخله آخر يتمنى أن يكون الحُرّ غير المُقَيَّد بقيود المجتمع وبأسوار الوظيفة والتزامات المهنة؛ فالمثقف كنجيب محفوظ كاتب الرواية يعيش مع كتبه وقلمه وأوراقه، ليسطِّر ما يسطر، ويتمنى فى أعماقه أن يكون «محمود»، بحارًا يجوب العالم، يعاشر النساء، ويعاقر الخمر ويحقن الأفيون، ويحُب من يحُب، لا «سيد» توأمه الروائى العظيم العقيم فى علاقته مع زوجته الجميلة.
لكل منا همجيته الداخلية وتمرده على عالمه المنظم، وصوته الأصيل وقلبُه الحقّ الذى يناديه ليتمرد على الأنا العليا التى تتحكَّم فى اللذَّات والنزوات والمغامرات، بالأخلاق والضمير والقيود الاجتماعية.. ولكن تلك الهمجية التى ترقد داخلنا هى روحك الفجَّة، كالطين والتراب وخمير العجين، الجزء الذى يصلُ بينَك وبين الطبيعة والثقافة، تلك القيمة فى التحقُق وتحقيق المسائل المعقّدة ليست بالضرورة أن تكون فى غرفٍ مغلقة، وعلى أوراقٍ بيضاء وأقلامٍ مُنمقَّة، وأنت مسجون داخل وعيك وقيودك وحبالك، هكذا كان نجيب محفوظ، مُدرَّبًا ومُنظمًا ومشروطًا بأن يتصرَّف بنفس الطريقة ويسير فى نفس الطريق، ويقرأ نفس الجريدة ويحلم بأن يتمرَّد، وربما فعل ذلك.. لكنه صرّح بأنه لن يخبر أحدًا بالحقيقة.
وللأسماءِ عند محفوظ دلالة؛ فالمثقف الثرى «سيد» السيد فى مكانه، وفى أجهزة الدولة الذى لا تحوم حوله الشبهات، والثانى توأمه «محمود» محمود لأنه يعيش بحريته فى العالم، وغير مُقيَّد بأى شىء، وعشيقته بهيِّة التى تشيع البهجة.
تسرَّع بعض النقاد والكتاب، ونطقت بعض الشخصيات فى الفيلم بأن سيَّد المثقف يعانى من «الشيزوفرينيا ـ انفصام الشخصية»، وهذا خطأ لأن الـ Schizophrenia كما يجب أن تُكتَب وتُنطق ليست إطلاقًا ازدواج الشخصية الذى يعنيه هؤلاء، لكنها مرضٌ عقلى يصيب صاحبه باضطراب التفكير والمزاج، لا أنه يتحوَّل إلى شخصيةٍ أخرى. نعم.. ربما بدا على سيد بعض الاضطراب فى التفكير وفى المزاج، ولكن ليس لأنه مريض «بفصام العقل»، ولكن لأنه يعانى من الصراع بين أن يكون المُثقَّف المُحنَّط داخل الغرف الزجاجية، وبين أن يتعاطى حقن الأفيون ويعاقر الخمر ويجرى هنا وهناك.. إنه ذلك الصراع الوجودى والتناقض الإنسانى بين الإنسان وذاته.
كثيرون من المدراء والأثرياء وعِلية القوم يتمنون حرية الصعاليك، وربما هم فى الخفاء هَمَج وبوهيميون وقتلة، كما تدلنا على ذلك صفحات الحوادث، الصعلوك يعيش فى عالم من البهجة واللهو والرقص والسفر، لا يراقبه أحد إلا بعدما قتله أخوه؛ وكأنها قصة قابيل وهابيل.
إن «سيد» هو القرين الحُر لـ «محمود» المثقف عالى النبرة، المُطفأ من الداخل، القابل للانفجار، وبالتالى تحدُث الجريمة، وهنا تشاهد «شريفة» زوجها «سيد» وهو يُبدِّل ملابسه ويغير جلده ليتحوَّل من المثقف إلى البحار.
لعلها أزمة كبرى من أزمات المثقفين بعد هزيمة 67، لا تزال موجودة حتى الآن.
كان الفيلم من أكثر أفلام يوسف شاهين تعقيدًا على المشاهدين وقت عرضه، ولكن فى سينما «زاوية» كان الحضور فئةٌ مختارة على قدر من الوعى والفهم، لإدراك نواحى الفيلم النفسية والاجتماعية والسياسية.