من الاتكالية إلى التمكين لعلاقة علاجية تُوقظ قوى «الأنا»
تساءلت المُتعالِجة: «أنا حاسّة حاجة.. حضرتك متِّبِع معايا طريقة فى العلاج مختلفة، أو شايف إنى فى مرحلة لا ينفع معها الجدال ومحاولة إعمال المنطق، فتدفعنى أن أقف على رجلى بنفسى؟ أو عايزنى أعالج نفسى بنفسى، من غير ما أحِس إنى بتعالج؟».
أجبت: «فعلًا هذا نوع من العلاج يعتمد على دعم قوى الذات عند المريض بدلًا من الاتكالية على المُعالِج. وهذا الأسلوب يركز على تمكين الشخص من غير علاجه بشكل مباشر، وبناء وعيه بنفسه وقدراته على الفهم والتغيير من جواه، وتشجيع الاعتماد التدريجى على الذات، دون أن يُحِس بأنه يلعب دور الضحية، أو أنه يتلقى (علاجا خارجيا). وهذا منهج له جذور فى المدارس الإنسانية والتحليلية، وهدفه ليس إخفاء الألم، لكن تكوين معنى شخصى من المعاناة، وتحويلها إلى طاقة نفسية تدفع للنمو».
فى زمنٍ تتسارع فيه وتيرة الحياة وتزداد الضغوط النفسية والاجتماعية، يجد كثير من الناس أنفسهم فى حاجة إلى دعم نفسى حقيقى، يتجاوز الوصفات الجاهزة والتشخيصات السطحية. فى هذا السياق، يصبح العلاج النفسى ليس مجرد وسيلة للتخفيف من المعاناة، بل مسارًا وجوديًا لإعادة بناء الإنسان من الداخل، عبر علاقة علاجية صادقة، تتأسس على الحوار، والاحترام، وإعادة اكتشاف القوى الكامنة فى الذات.
خلال خمسين عامًا من الممارسة الإكلينيكية فى الطب النفسى، أدركت أن أول خطوة نحو أى علاج فعّال لا تبدأ بالدواء أو بالتحليل، بل تبدأ بإقامة علاقة علاجية متبادلة قائمة على التحالف العلاجى Therapeutic Alliance والذى أراه حجر الزاوية فى كل شفاء حقيقى، وليس من المبالغة القول إن العلاقة بين المعالِج والمتعالِج هى بذرة العلاج وثماره فى آنٍ معًا، لأنها ليست علاقة سُلطة، بل هى تَشارُك إنسانى، يلتقى فيها شخصان.. أحدهما يحمل معاناةً، والآخر يحمل استعدادًا للإصغاء، لا للسيطرة.
التحالف العلاجى لا يُبنى على التشخيص، بل على الشعور بأن هناك من يرى الإنسان لا العَرَض، ومن يسمع الصوت لا الضجيج. ومن هنا فإن أول ما أبحث عنه فى الجلسة الأولى هو.. هل هناك حوار ممكن؟ هل بينى وبين هذا الشخص «رابطة» صامتة، وإن لم يُنطق بها؟ فإن لم تكن، فلا جدوى من العلاج، مهما بلغت خبرتى أو معرفتى.
إن المنهج الذى أتّبعه لا يقوم على أننى أمتلك «الحل» وأمنحه، بل إننى أُهيّئ المناخ الآمن ليتعرّف المتعالِج على قواه الداخلية، حتى وإن كانت مجروحة أو خامدة. إن الاتكالية النفسية تبدأ حينما يرى الإنسان نفسه عاجزًا، ويُسقِط قدرته على الآخر، فيصبح المعالج مُخلّصًا متخيَّلًا، لا شريكًا. أما التمكين فهو عملية شاقة لكنها شريفة، وتعنى أن يجد الإنسان نفسه فى نفسه، لا فى مرآة المعالج فقط. إن الهدف هنا ليس إخراج المريض من ألمه، بل مساعدته على إعادة تأويل الألم، وفهم رسالته، وتحويله من عبء إلى إشارة وفهم وإدراك.
حين يدخل المريض إلى غرفة العلاج، يدخل ومعه تراكم خيبات، وأحكام، وضغوط، وتكويناته الدفاعية. مُهمتى الأولى هى أن أُسقِط سلاح التفسير، وأفتح باب الإصغاء. غالبًا لا أقاطع المريض فى حديثه، حتى لو شعرت بأنه يبتعد عن «الموضوع» أحيانًا، ولا أُتسرَّع فى تقديم التفسيرات أو وضع «الخريطة». ولا أصحّح خطأه مباشرة، بل أدعوه لأن يرى بنفسه كيف وصل إليه. فى هذا المناخ، يبدأ الإنسان فى إعادة التعرُّف على ذاته، بعيدًا عن الميكانيزمات الدفاعية التى تَعوّد أن يختبئ خلفها. وتصبح الجلسة مكانًا، بل مساحة لإعادة الاكتشاف لا للإصلاح.
إن أحد أكثر الأسئلة التى تُطرَح: «هل سأشفى من هذه المعاناة؟». والجواب الصادق: «قد لا تختفى، لكنك ستفهمها، وستتغير أنتَ فى حضورها.» إنّى أؤمن بأن المعاناة ليست عيبًا نفسيًا، بل نداء وجودى، إشارة إلى أن شيئًا ما لم يُعش كما ينبغى، أو لم يُرَ كما يستحق، وحين يُمنح الإنسان فرصة للكلام الحُرّ، للفكر غير المشروط، يتغيّر موقعه من الألم: لم يعُد الضحية، بل الشاهد. وهذا هو التحول الأكبر، ليست دعوة لإنكار الحاجة إلى الآخر. لأن التمكين لا يعنى العزلة، بل يعنى أن تكون قادرًا على الدخول فى علاقة دون أن تفقد نفسك فيها. بأن تُعدّل علاقتك بالآخرين، ولا تقطعها. ويُعلّمه أن العلاقة الناجحة لا تقوم على الذوبان فى الآخر، بل على الحضور المتبادل.