حين احترق قلب الشبكة
١. المشهد: قلب القاهرة يحترق
فى بلد يئنّ تحت أزمات متعددة، اشتعلت النيران فجأة فى طابقين كاملين من سنترال رمسيس، أحد الأعمدة الكبرى فى شبكة الاتصالات المصرية. النيران كانت كثيفة، متوحشة، متغولة على كل شىء. الدخان تصاعد كأنّه لعنة تخرج من جوف مدينة فقدت القدرة على الصراخ. الناس يراقبون، التصوير مستمر.
وسط كل هذا، لا تُسمع صفارات إنذار حقيقية، لا تُرى استجابة طارئة فعالة. شىء أشبه بنهاية فيلم كارثة.. لكن بلا بطل، بلا إنقاذ، بلا خيال، فقط الواقع القاسى كما هو: بطىء، خامل، منهار.
٢. التصريح: سقوط أخلاقى قبل الإدارى
«منظومة الإطفاء أقل من شدة النيران».. قالها وزير الاتصالات بكل بساطة. لم يصرخ، لم يعلن الحداد، لم يُعفِ أحدًا، لم يعتذر للأمة. بل لم يعِ، ربما، حجم ما قال. فحين يعترف وزير على الملأ بأن نظام الإطفاء بأكمله غير مؤهل للتعامل مع أزمة حريق داخل منشأة حيوية ، فإن ما احترق ليس فقط السنترال.
٣. هل كانت النيران أقوى فعلًا؟
منظومة الإطفاء، فى أى بلد يحترم نفسه، تكون دومًا أقوى من النيران، لأنها صُممت لتكون كذلك. فكرة أن النار كانت «أقوى» هى مهزلة فى منطق الأشياء. إنها مثل قبطان سفينة يقول إن الأمواج كانت أضخم من قَدَرنا، بينما هو الذى أبحر دون مجاديف، دون خطط، ودون تدريبات طاقمه. ما قاله الوزير لا يعفيه، بل يدينه، فهو اعتراف بالعجز، بإهمال سنوات، بميزانيات مهدورة، بتدريبات لم تُجرَ، باختبارات لم تتم، بمنظومة هشة صُرفت عليها المليارات، ثم اختنقت بدخان أول حريق حقيقى.
٤. سيكوديناميك الكارثة: ما باليد حيلة؟
من الناحية السيكوديناميكية، تعكس هذه الحادثة حالة من الانهيار النفسى الجمعى داخل الحكومة، كأن الجسم الإدارى نفسه يعانى من اكتئاب مزمن، من إنكار وظيفى، من بلادة وجدانية تجاه الكوارث. إنها حكومة أصبحت، فى بعض مفاصلها، غير قادرة حتى على الاستجابة لذاتها، غير قادرة على حماية عمودها الفقرى فى الاتصالات، أى ما يعادل الحبل الشوكى فى جسد الإنسان. هل تتخيل أن يحترق العمود الفقرى، ويقف الرأس ليقول: ما باليد حيلة؟
٥. الكارثة فى بُعدها الرمزى: سنترال رمسيس ليس مجرد مبنى
فى الخيال الجمعى المصرى، رمسيس ليس مجرد شارع أو محطة أو سنترال. هو المركز، القلب، النبض. حين يحترق قلب المدينة، يحترق إحساس الناس بالأمان.
المواطن الذى يرى أن سنترالًا ضخمًا ينهار هكذا، فى صمت مريب، يبدأ بالشعور أنه وحده. أن الحكومة لا تملك حتى مضخة ماء تحمى بها ذاكرتنا الرقمية.
٦. وماذا لو كان الحريق بفعل فاعل؟
حتى وإن لم يثبت بعد، تَلوح فى الأفق احتمالات أمنية: ماذا لو كان هناك إهمال متعمّد؟ ماذا لو كان هناك تواطؤ؟ أو سوء صيانة؟ أو حتى عبث متكرر؟ إذا كانت النيران نتيجة احتكاك كهربائى عابر، فهذا يعكس ضعفًا خطيرًا فى صيانة البنية التحتية. أما إن كانت بفعل فاعل، فالمصيبة أعظم.
٧. السخرية: الردود الرسمية أخطر من الحريق
بعد الحريق، لم نرَ استقالة. لم نسمع عن لجنة تحقيق حقيقية.. ما حدث كان على العكس: مسؤولون يتبادلون البيانات الجافة، ووزير يتحدث بهدوء بارد. السخرية ليست فى اللهب، بل فى البلادة. ليست فى الكارثة، بل فى من لا يشعر بها.
٨. أخيرًا: هل تحترق الدولة فعلًا؟
حين تتكرر الكوارث، وتغيب المحاسبة، ويموت الحسّ بالمسؤولية، يصبح الحريق الفعلى هو صورة مجازية لما هو أعمق. الوزير الذى قال إن «منظومة الإطفاء أقل من شدة النيران» لا يعرف أنه قد نطق، دون قصد، بالحقيقة الأكبر: نحن حكومة أقل من شدة الواقع.